بصمات

دلالة الأزمنة التاريخية!في السياقين العربي والإسرائيلي

في إطار مُساءلة راينهارت كوزيليك (Reinhart Koselleck) عن دلالة الأزمنة التاريخية في كتابه "مستقبل الماضي"، اعتبر أنّها من بين أصعب الأسئلة التي تواجه علوم التاريخ، وهو ما شكّل مضمون كتابه، فالعتبات التاريخية للشعوب يرسمها بالأساس نمط فهمها للزمن. والحال أنّ هذا الفهم الذي خضع لتغيّر جذري مع الثورة الفرنسية التي عملت على محايثة مفهوم الحاضر كتجربة تُعاش وتتجدّد بشكلٍ مُستدامٍ ومُتسارعٍ، هذا التغيّر الحامل لعتبةٍ تاريخيةٍ جديدةٍ، يُعبِّر عنه مبحث التاريخ المفهومي المؤسّس لتجاربنا التاريخية، إذ من خلال تناسل التجارب المفهوميّة يتمّ خلق بيئةٍ لاستباقٍ زمنيّ ومفهوميّ.

دلالة الأزمنة التاريخية!
في السياقين العربي والإسرائيلي

إنّ الوضع العربي، بخاصّة في ظلّ الصراع مع إسرائيل من ناحية فهم التاريخ، يُعبّر بشكلٍ ما عن طبيعة تمثّلنا وتعاطينا مع تجاربنا التاريخية، فالتاريخ ليس ثابتًا أو راكدًا، كما يبدو، لأنّ الركود هنا يقاس في تَمثّلنا العربي العام بمدى حركيّته نحو المستقبل وكذا انفلاته من أزمة الحاضر، حتى وإن لبست أوجهًا لتجارب زمنية مختلفة؛ وهنا نكون أمام قراءة حداثيّة للوعي التاريخي تنطلق من مفهوم التاريخ التصاعدي أو التقدمي، أي إنّنا إزاء رؤية تقييمية لمسارنا التاريخي، بينما واقع تجاربنا التاريخية يبقى في حركيّة مستمرّة، بمعنى ما، والحركيّة هنا تُعبّر عنها بشكلٍ أساس التجربة المفهوميّة لحقل تجاربنا، بغضّ النظر عن مسار هذه الحركية.

الوجود العربي يحاول أن يتأقلم مع حقل تجربة تُخندق وجوده بالتبعيّة والضعف

يُعبّر واقعنا العربي الراهن عن تغيّرٍ كبيرٍ على مستوى العدّة المفهوميّة خصوصًا فيما يخصّ مسار الصراع العربي - الإسرائيلي، فقد انتقلنا عبر سبعة عقودٍ، وبشكلٍ لافتٍ، إلى عدّةٍ مختلفةٍ ومتناقضة: من استيطان / احتلال / دولة قومية واحدة / تهجير قسري أو طوعي، مقاومة / إرهاب / نزع السلاح، الكِيان الإسرائيلي / التطبيع، قطاع غزّة والضفّة / فلسطين، الكِيان / إسرائيل، حلّ الدولتَيْن / دولة واحدة مُتعدّدة القوميات، دولة لليهود / إسرائيل الكبرى.

يَدَهي أنّ هذه العدة التي تُعبّر عن حقل تجربتنا المفهوميّة إزاء الصراع، ترسم نمط فهم زمن صراعٍ وكذا حركيّته، فنكون بذلك أمام تجارب تاريخية على طرفَيْ نقيض. فالوجود العربي يحاول أن يتأقلمَ مع حقل تجربةٍ تُخندق وجوده بالتبعيّة والضعف والتعايش مع نتائج تجربة الطرف الثاني، على خلاف الوجود الإسرائيلي الذي يقتات على التمثّل العربي لزمنيّته التاريخية.

يتحرّك نتنياهو وفق رؤية إيديولوجية دينية بغلاف سياسي

يَقرأ الفاعل الأول تجاربه التاريخية في شموليّتها من دون فاعلية راهنة، لأنّه ينسلخ عن الراهن ليتأمل الكلّ التاريخي، لهذا يفقد قدرته على خلق تجربة تاريخية تنسلخ عن هذا الكلّ. أمّا الفاعل الثاني فهو أكثر التصاقًا بالحقل الزمني الظرفي والموضعي لواقعه، ممّا يسمح له بتحقيق توافقٍ ما بين مُجريات حقل تجربته وأفق انتظاره، وهنا يحقق إمكانات أخرى لترجمة المزيد من التوقّعات والآمال إلى واقع.

وهذا يُحيلنا إلى الخلاصات التالية:

ــ يربط الفاعل التاريخي في ظلّ هذا الصراع حركيّته الزمنية بتحقيق أعلى سقفٍ من التوقّعات، وقد يكون هنا نتنياهو أبرز نموذج لذلك، فهو يُسارع الزمن الحكومي والذاتي لتحقيق الزمن التوقّعي الخاص بدولة إسرائيل كما تقدّمها السرديّة الصهيونية. وهي فاعلية تُقاس بمدى قوة المحيط الداخلي وضعف الجانب الخارجي، حيث يتحرّك وِفق رؤيةٍ إيديولوجيةٍ دينيةٍ بغلافٍ سياسيّ. إذ إنّ التوجّه الإيديولوجي هنا منغلق على ذاته لا يخضع لأيّ مقاربةٍ سوى تحقّق السرديّة المحرّكة له، حيث تُمثّل تجربة الحاضر السياسي عَتبةً لاستكمال هذه السردية الدينية، فيلتحم الجانب التاريخي والسياسي مع التمثّل الديني.

ــ التجارب التاريخيّة غير ساكنة في حدّ ذاتها، ولكنّ سكونها ناتجٌ عن رؤيتنا المعيارية لما نحن عليه، فنكون بذلك فاعلين، ولو بشكلٍ سلبيّ، في رفع الطموح الصهيوني إلى أعلى مراتبه. وفي المقابل، نُكرّس تمثّلًا عن تجاربنا التاريخية بماهية تجارب تعجز عن تجاوز أزمة الاستيطان نفسه، فنخلق بونًا شاسعًا ما بين واقع تجربتنا الراهنة وواقع تجربة الفاعل الآخر.

ــ تُرفع التجارب التاريخيّة في ظلّ هذا الصراع إلى مرتبة تجربةٍ لتفسير مجريات العالم ككلّ، فالتجربة الإسرائيلية استفادت من التنوير الغربي باستلهام نمط فهم الزمان، حيث صُبِغَ بدلالةٍ تُحيل إلى وجهَيْن، فهو المحرّك والهدف، وبذلك تمّ تثمين الحاضر (المحرّك) الذي يقود المستقبل (الهدف) ويعمل على إعادة تشكيل الرؤى الماضوية لطرفَيْ الصراع. الأمر شبيه بما تمثّله الغربيون عن حاضرهم الحداثي إبّان الأزمنة الحديثة.

غطرسة الإسرائيليين تندرج ضمن خانة الشعور بامتلاك الحاضر والقدرة على التخطيط للمستقبل

ــ استطاع التوجّه الصهيوني الإسرائيلي بلورة محايثة معقّدة لمجموع تجاربه التاريخية منذ القرن الثامن عشر، ما بين الآمال التي تأسّست عليها السرديّة اليهودية وواقع التجربة السياسية في صورةٍ متسارعةٍ ومتواترةٍ بشكلٍ ملفتٍ، ممّا سهّل تلخيص الراهن كتجربة تاريخية مُهيئة لما يُسمى "إسرائيل الكبرى".

ــ ما نعتبره اليوم نوعًا من الغطرسة عند الفاعلين السياسيين الإسرائيليين، يندرج ضمن خانة الشعور بامتلاك الحاضر والقدرة على التخطيط للمستقبل، حيث نلامس توافقًا ما بين الرؤى التنظيرية وواقع تحقّقها. أو كما يسمّيها كوزيليك توافق حقل التجربة وأفق الانتظار، وقد يدخل في هذا الباب، تصريح إيتمار بن غفير ونتنياهو عن "إسرائيل الكبرى"، وهو وعيٌ مُتشبّعٌ بالحاضر الذي يقوده الأفق الانتظاري المستقبلي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن