في البداية، أرادت إسرائيل أن تُعيد ترميم صورتها الردعيّة التي اهتزّت بشدةٍ بعد عملية "طوفان الأقصى". لكن بعد مرور شهور طويلة من القتال، لم تتمكّن من القضاء على البنية التنظيمية للمقاومة، بل إن الأخيرة استطاعت أن تحافظ على قدرٍ من الفاعلية الميدانية على الرَّغم من القصف المكثّف، وما زالت وحدات المقاومة تفرض معارك استنزاف في أحياء ضيقة وشوارع محصّنة، وهو ما أوقع الجيش الإسرائيلي في حرب شوارع مرهقة.
أمّا الهدف الثاني، أي تحرير الأسرى، فقد صار عقدةً سياسيةً وأمنية. فبدلًا من أن يُفرض عبر "القوة العسكرية"، باتت إسرائيل مجبرةً على الدخول في مفاوضاتٍ شاقّةٍ مع الوسطاء، وهو ما مثّل تراجعًا عن خطابها المتشدّد. والأسوأ أنّ استمرار الحرب أدّى إلى مقتل بعض الأسرى بنيران إسرائيلية، ما أثار انتقادات داخلية حادّة وشكوكًا في كفاءة القيادة.
كلفة بشرية ومادية غير مسبوقة
تتكشف يومًا بعد يوم الأثمان الباهظة لهذه الحرب. فعدد القتلى والجرحى بين الجنود ارتفع بصورةٍ غير مسبوقةٍ في تاريخ إسرائيل الحديث، مع خسائر متكرّرةٍ في المعدات والدبابات والآليات العسكرية. ولم تُفلح التكنولوجيا المتقدّمة في مواجهة مقاتلين يستخدمون تكتيكات الأنفاق والكمائن والعبوات البسيطة.
فاتورة الحرب تزداد ثقلًا على الخزينة الإسرائيلية
على الصعيد الاقتصادي، تكبّدت القطاعات الاقتصادية والتجارية والأسواق وفروع العمل خسائر ماليةً فادحةً، فقد قدّرت وزارة المالية الإسرائيلية أنّ تكلفة الحرب حتّى مايو/أيار 2024 بلغت حوالي 73 مليار دولار، تشمل التكاليف العسكرية والخسائر المالية المباشرة وغير المباشرة. وهذا الرقم يعكس العبء الماليّ الكبير الذي تتحمّله إسرائيل جرّاء استمرار الحرب.
كما تحوّل القطاع الصناعي والسياحي الإسرائيلي إلى ضحيةٍ مباشرةٍ، إذ أدّت حالة الاستنزاف إلى نزيفٍ ماليّ ضخم. وعلى الرَّغم من الدعم الأميركي الهائل، فإنّ فاتورة الحرب تزداد ثقلًا على الخزينة الإسرائيلية، وتُلقي بظلالها على المعيشة اليومية للمواطنين.
أزمة ثقة داخلية
فشل الحرب في تحقيق اختراقٍ استراتيجيّ عمّق الانقسام السياسي في الداخل الإسرائيلي. فالمعارضة تتهم نتنياهو ووزراءه بأنّهم يقودون البلاد نحو مأزقٍ بلا أفقٍ، بينما يصرّ معسكر اليمين المتطرّف على مواصلة الحرب مهما كانت الكلفة. وبين هذَيْن الخطَّيْن، تتّسع الفجوة بين القيادة والشارع، حيث باتت تخرج احتجاجات تطالب بوقف الحرب والعودة إلى الحلول السياسية. وشهدت إسرائيل لأوّل مرةٍ في تاريخها احتجاجات واسعة ضدّ إدارة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو للحرب، حيث خرج أكثر من مليون شخص في مظاهراتٍ تُطالبُ بوقف الحرب والإفراج عن الأسرى. هذه الاحتجاجات تعكس حالةً من الغضب الشعبي والقلق من استمرار الحرب من دون تحقيق نتائج ملموسة.
شكوك حول قدرة الجيش الإسرائيلي على الحسم
الأكثر خطورةً هو انهيار صورة الجيش الإسرائيلي الذي لطالما سوّق نفسه على أنّه "الجيش الذي لا يُقهر". اليوم، ولأول مرةٍ منذ عقود، تبرز الشكوك حول قدرته على الحسم، وحول جدوى عقيدته القتالية. فالجنود الإسرائيليون يواجهون خصمًا مُتجذّرًا في أرضه، يستند إلى تكتيكات حرب العصابات، ما جعل إسرائيل تعيش مأزقًا استراتيجيًا حقيقيّا.
مأزق سياسي خارجي
لم تقتصر التداعيات على الداخل، بل امتدّت إلى صورة إسرائيل في الخارج. فقد تراجع رصيدها الأخلاقي والديبلوماسي أمام العالم بسبب حجم الدمار غير المسبوق في غزّة، وما رافقه من صور القتل الجماعي والتجويع.
وهذا بدوره أدّى إلى ضغوطٍ دوليةٍ متزايدةٍ، حتّى من حلفاء تقليديين، على الحكومة الإسرائيلية لوقف الحرب والدخول في مسارٍ تفاوضي.ّ
تبيّن أنّ القوة العسكرية وحدها لا تكفي لكسر إرادة شعب ولا لإنهاء قضية مُتجذّرة في الوعي
اليوم، تبدو الحرب الإسرائيلية على غزّة وكأنّها بلا نهايةٍ واضحةٍ، وبلا نصرٍ يُحتفل به. إسرائيل لم تحقّق أهدافها المُعلنة، بل باتت مهدّدةً بخسارة صورتها الردعيّة التي قامت عليها منذ تأسيسها. المقاومة لا تزال قائمةً، والضغط الدولي يتصاعد، والداخل الإسرائيلي يغلي بالانقسامات.
إنّها حرب تحوّلت من "عملية عسكرية للحسم" إلى "حرب استنزاف طويلة"، ومن "رهان على النصر" إلى "مأزق وجوديّ". ولهذا، يمكن القول إنّ حرب إسرائيل على غزّة هي بالفعل "حرب بلا نصر"، وربّما تفتح الباب أمام إعادة صياغة المُعادلات الإقليمية برمّتها، بعدما تبيّن أنّ القوة العسكرية وحدها لا تكفي لكسر إرادة شعب ولا لإنهاء قضية مُتجذّرة في الوعي العربي والإسلامي.
(خاص "عروبة 22")