هل كان الرئيس الأمريكي مضطرا لاستدعاء الحرس الوطني للسيطرة على العاصمة واشنطن بدعوى مواجهة "عصابات ومجرمين خطيرين"؟، التقارير تؤكد أن العاصمة الأمريكية سجلت أدنى معدل جرائم منذ ثلاثة عقود، أي أن ادعاء انتشار الجريمة ليس صحيحا، ولا مبرر لأن تكون عاصمة الولايات المتحدة تحت حكم استثنائي، باستخدام قوات الحرس الوطني، وهو ما يسيء لسمعة الديمقراطية الأمريكية.
ليس هذا السؤال الوحيد المحير في طريقة إدارة الرئيس ترامب للملفات الداخلية والخارجية، فالسؤال الأكثر إلحاحا لماذا تخسر الإدارة الأمريكية علاقتها الجيدة مع الهند، وتقرر فرض عقوبات مشددة عليها، لمجرد رفضها التوقف عن استيراد النفط والغاز من روسيا، في وقت تحتاج فيه الولايات المتحدة لعلاقة قوية مع الهند في ظل أزمتها المتفاقمة مع الصين، حتى إن رئيس الوزراء الهندي تواصل فورا مع القيادة الصينية لنسج علاقات اقتصادية أقوى، بما يحول النزاع الهندي الصيني إلى تقارب وربما تحالف.
والتقطت الصين الفرصة، وأعربت عن ترحيبها بتعزيز التعاون، رغم التاريخ الطويل من النزاع بين البلدين الكبيرين، وسيكون للتقارب الهندي مع الصين آثاره العميقة والسريعة على إضعاف نفوذ الولايات المتحدة في آسيا. أما خسارة إدارة ترامب لحلفائها التاريخيين في أوروبا فهو الأكثر إثارة للجدل، خاصة مع استقباله الفاتر لقادتها عند مناقشة الحرب الأوكرانية، وكيف جعلهم يجلسون صفا واحدا أمام مكتبه، وكأنهم تلاميذ مدرسة، بينما كان قد استقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على سلم طائرته، وبحفاوة لم يسبقه فيها أحد، وأثارت تكهنات بأن إدارة ترامب تقرأ موازين القوى الجديدة، وأدركت أن أوروبا أصبحت ضعيفة، ولا يمكن التعويل عليها، وأن ترامب في أشد الحاجة لتحالف جديد مع روسيا القوية، والتي يمكن أن يكسبها إلى جانبه بتنازلات على حساب أوكرانيا، مقابل أن تكون بجانبه في معركته الأهم ضد الصين.
لكن هل يمكن للرئيس الأمريكي أن يكسب روسيا على حساب الصين؟ لا يمكن للرئيس الروسي بوتين أن يتخلى عن الصين مهما كانت الإغراءات، فالصين وقفت إلى جانبه طوال الحرب في أوكرانيا، واستوردت من روسيا معظم ما كانت تصدره إلى أوروبا وأمريكا، وباعته معظم ما كان يحتاجه منها، ولم يكن الاقتصاد الروسي يمكن أن يتحمل آلاف العقوبات دون مساندة الصين اقتصاديا على الأقل، والمرجح أن الصين دعمته عسكريا، وإن كانت حريصة على ألا يكون الدعم العسكري علنيا، لكنه وضح من خلال المكونات الصينية في الأسلحة الروسية الجديدة، واتفاقية التعاون الاستراتيجي، وتبادل المعلومات والتعاون الأمني، وكذلك إرسال كوريا الشمالية قوات بكامل معداتها إلى روسيا.
كما يدرك بوتين أن الصين حليف استراتيجي موثوق وثابت، بينما إدارة ترامب متأرجحة، يقودها رئيس متقلب المزاج، لا يمكن الوثوق فيه، والمؤكد أنه سيترك الحكم، وسيأتى من سينقلب على سياساته، بل يمكن أن يتراجع عن تقاربه مع روسيا تحت ضغط الدولة العميقة، أو دون ضغط، فهو لا يتحمل طويلا أن يكون أمام شخصية كاريزمية مثل بوتين، ورأينا علامات توتر العلاقة مع بوتين بعد أيام قليلة من قمة ألاسكا، فالرئيس الأمريكي مضى في طريق الضغط على روسيا بالعقوبات المشددة، بل أرسل بوارجه نحو سواحل روسيا في إشارة تهديد، رد عليها بوتين باعتراض طائرة أمريكية، وإرسال غواصاته النووية لمواجهة القطع البحرية الأمريكية.
إن علامات الوهن بدت واضحة على الجسد الأمريكي، فالاقتصاد في حالة مزرية، من أزمة ديون لا تستجيب لأي علاج، وحرب تجارية تنعكس بالسلب على الداخل الأمريكي بارتفاع معدلات التضخم، وانخفاض التوظيف، وشبح الكساد يقترب بسرعة. ولا يتوقف الأمر عند حدود الوهن الاقتصادي، وإنما يمتد إلى تراجع القوة العسكرية، فلم تعد الولايات المتحدة قادرة على خوض سباق تسلح مع الصين الصاعدة بقوة إلى عرش القوة العسكرية الأولى في العالم، فهي الأسرع في الاختراعات العسكرية، والأكثر تطورا في العديد من أفرع القوة، من الصواريخ فرط الصوتية، إلى طائرات الجيل السادس، إلى المسيرات الذكية.
وتمكنت في غضون عشر سنوات من أن تصبح القوة البحرية الأولى، والقادرة على إنتاج ذخائر وأسلحة أضعاف ما يمكن أن تنتجه الولايات المتحدة، بفضل قاعدتها الصناعية الضخمة، وعدد خبرائها في مختلف المجالات الصناعية والعسكرية، ولهذا كان على إدارة ترامب أن تحافظ على حلفائها، سواء في أوروبا أو آسيا، وأن يرمم ترامب بيته الداخلي المتداعي، إذا أراد أن يحقق السبق في مواجهة الصين، لكنه يفقد الحلفاء، ولا يقلل من صراعاته الخارجية أو الداخلية، بما سيجعله يخسر السباق بأسرع مما كان متوقعا، ولن تعود أمريكا عظيمة من جديد مثلما وعد ناخبيه، بل لن تتمكن من الحفاظ على ما تبقى لها من عناصر القوة.
(الأهرام المصرية)