بصمات

لوقف القتل بأي ثمن في غزّة!

تغلق خطة نتنياهو الكارثيّة للسيطرة على غزّة والضفّة الغربية النّافذة الصغيرة المُتاحة لحلفاء إسرائيل لثنيها عن المزيد من الحرب. فعلى مدى 22 شهرًا، كان القادة الأجانب يرفعون مطالباتهم لبنيامين نتنياهو بإنهاء الحرب الكارثيّة، لكن بدلًا من ذلك، يُصرّ رئيس الوزراء الإسرائيلي على مسارٍ جديدٍ نحو التوسّعية في الموت والدمار والتهجير لمليونَيْن ومئتي ألف فلسطيني في غزّة. وهذا سيعني مزيدًا من القتلى والجوع، حتّى في المناطق التي كانت تُعتبر آمنةً نسبيًا داخل القطاع.

لوقف القتل بأي ثمن في غزّة!

أطفال غزّة صارت هياكلهم عظميةً وسط الأنقاض. مئات الآلاف من الأشخاص يعانون من الجوع والعطش حتّى الموت. أشخاصٌ اختفوا تحت أنقاض مبانٍ ومدنٍ سُوّيت بالأرض بالقنابل التي استُخدمت في الإبادة الجماعيّة، أو في عمليات منع توزيع المساعدات الإنسانية التي تنتهي في الكثير من الأحيان بإطلاق النار على المتجمهرين حولها.

ليس من المفاجئ، بل من السورياليّ، أن تُنبّه منظمات الأمم المتحدة الإنسانيّة مثل "أطباء بلا حدود"، و"أطباء العالم"، و"أوكسفام الدولية"، إلى عدد القتلى بأكثر من 65 ألفًا (ربّما يتكشّف العدد عن ثلاثمئة ألف) منهم 18 ألف طفل، وأكثر من 140 ألف جريح، وإلى "المجاعة الجماعيّة" التي تخشى من حصولها، بل إنّها وقعت بالفعل في قلب العالم الجديد. باتّباع هذه الخطة الصهيونية، يوجّه نتنياهو إهانةً للعالم الذي يزداد تمرّدًا على أفعال إسرائيل ومجازرها. كما يتجاهل نصائح قادة جيشه، ورغبات عائلات الرهائن وغالبية الشعب الإسرائيلي بوقف الحرب. لقد بدأ الكثيرون يُدركون الأذى الفادح الذي تسبّبه الحرب اقتصاديًا وعسكريًا واجتماعيّا.

يواصل نتنياهو مدفوعًا بمصالح سياسية داخلية وتطرّف شركائه السير في حرب لا يعرف أحد متى ستنتهي

إنّ توسيع الاحتلال نحو الضفّة الغربية سيؤدّي إلى نتائج كارثيّة لإسرائيل وللسكّان الفلسطينيين. هذا يعني إبقاء الملايين تحت الحصار، وتعزيز الفوضى أكثر في المنطقة، وستزداد عزلة ٳسرائيل الدولية، وقد ينهار الدعم حتى من أقرب حلفائها.

الهدف المعلن لنتنياهو هو "النصر الكامل" على "حماس"، أي تحرير الرهائن، غير أنّ هذا الطموح غير واقعي، إذ لا توجد خطة لإدارة القطاع بعد ذلك، ما يترك فراغًا كبيرًا ستملأه الفوضى أو عودة نفوذ "حماس" أو أي فصيل مقاوم آخر. فيما يواصل نتنياهو، مدفوعًا بمصالح سياسية داخلية وتطرّف شركائه في الحكم، السير في حربٍ لا يعرف أحد متى ستنتهي.

هناك حاجة ملحّة إلى مبادرةٍ سياسيةٍ جديدةٍ، وإلّا فإنّ الحرب ستستمرّ في حصد الأرواح وتعميق الكارثة الإنسانيّة، فما يحدث في غزّة هو "فيلم رعب"، على حدّ تعبير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. فيلم لا نهاية له يشاهده العالم بذهول، وهو يتابع من الخارج صورًا مرعبةً لكن من غير الواضح، إذا كان قادرًا أو راغبًا في إجبار الاحتلال على إنهاء الحرب.

الأشهر الأخيرة، شهدت نزاعات عمرها عقود بين رواندا والكونغو، وبين أذربيجان وأرمينيا، وخطوات أولية مؤخّرًا لإنهاء الحرب في أوكرانيا. هذه الاختراقات تُعيد الأمل في أنّ النزاعات يمكن أن تنتهي عبر الديبلوماسية لا بالوحشية. ومع ذلك، وبينما تستقطب هذه الصراعات اهتمامًا عالميًا أكبر، فإنّ الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني يبدو أبعد ما يكون عن الحلّ وهناك وهْم خطير بأنّ هذا الصراع لا يمكن حلّه، وقد كلّف أرواحًا كثيرة، فليس سهلًا الاستمرار في تقتيل الناس المدنيين وتدمير حيواتهم.

بناء "الثقة" لا يمكن أن ينشأ إلّا بعد السلام عبر تطبيق اتفاق سياسيّ عادل

لقد أثبتت البوسنة، وكرواتيا، وصربيا أنه، على الرَّغم من التشاؤم الكبير، يمكن للاتفاقيات أن توقف إراقة الدماء. والدروس المستفادة من اتفاقية "دايتون" مهمّة للغاية، مع أنّه قد تبدو مقاربة البوسنة بفلسطين مضطربة. لكنّ الدرس ليس في تكرار مصير البوسنة، بل في استخلاص مبادئ أساسيّة يمكن أن تساعد الإسرائيليين والفلسطينيين على الخروج من الجحيم.

وكان هدف صانع اتفاقية "دايتون"، الديبلوماسي الأميركي الراحل ريتشارد هولبروك، إنهاء القتل بأي ثمن، وهذا المبدأ ينطبق على إسرائيل وفلسطين أيضًا، ويجب أن تسعى القوى الخارجية إلى فرض إنهاء الحرب بجدّية، فسلام البوسنة فرض ترتيباتٍ بين جماعاتٍ عرقيّةٍ مُتحاربة.

الفلسطينيون والإسرائيليون قد يفضّلون العيش في دولةٍ واحدةٍ أو في دولتَيْن منفصلتَيْن. وأحد الدروس الأخرى من البوسنة هو أن "الثقة" ليست شرطًا مسبقًا للسلام ولا تترك شكًّا في عمق العداء الإسرائيلي - الفلسطيني. بناء "الثقة" كشرطٍ مُسبقٍ بين الإسرائيليين والفلسطينيين أمر مستحيل، ولا يمكن أن ينشأ إلّا بعد السلام وليس قبله، عبر تطبيق اتفاقٍ سياسيّ عادل، وحيث تُفيد دروس التاريخ، بأنّه لا يمكن لٳسرائيل الكبرى أن تحقّق ذاتها وتُلغي الآخرين.

المنطقة العربية بحاجةٍ إلى اتفاقٍ أكثر من أي وقت مضى على مبادرة سياسية جديدة. الأزمة الإنسانية في غزّة بلغت مستويات فوق الوصف ومرحلةً أكثر خطورةً تفتك بكلّ الشرق الأوسط.

يعاني الفلسطينيون من المجاعة واليأس وفقدان الأمل بينما النظام الدولي ساكت عن التطهير العرقي

لقد عانى الفلسطينيون ما يكفي. معظم الإسرائيليين، وفقًا للاستطلاعات، يريدون إنهاء الحرب، والمطلوب الآن شجاعة سياسية من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، ومن القادة العرب. فالفراغ القاتل لم يعُد يُطاق.

إنّ المصير، القيم، والصورة في العالم، كلّها مهددة في هذه الحرب المفتوحة، إنكارًا للدولة الفلسطينية التي حظيت باعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة وفقًا للقرار الدولي رقم 181 الصادر عام 1947، ويحاول المجتمع الدولي أن يعيد الكرّة بعد الذي آلت إليه الأمور في غزّة. ولا ندري ما الذي سيبقى في المستقبل بينما يعاني الفلسطينيون من المجاعة واليأس وفقدان الأمل، بينما النظام الدولي الحالي ساكت عن التطهير العرقي والنيّة الخالصة العبريّة لتدمير الجماعة الفلسطينية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن