الأمن الغذائي والمائي

نحن نأكل المياه أكثر مما نشرب!

تُشير النتائج العلمية إلى أنّ الإنسان يأكل مياهًا أكثر بألف مرة قدر ما يشربه! فبينما يشرب الإنسان ما بين ليترين و4 ليترات من الماء يوميًا، فإنّه يأكل ما بين 1000 و5000 ليتر يوميًا من تناوله للغذاء! ويحتاج إلى المياه في شؤونه المنزلية بنحو 40 إلى 400 ليتر للفرد يوميًا، والرقم الأكبر للاستهلاك في الولايات المتحدة الأميركية، وينافسها في ذلك الفرد في دول قطر والإمارات والكويت على الرَّغم من كونها من الدول قليلة الموارد المائية المتجدّدة، ونصيب الفرد منها يتراوح ما بين صفر و89 مترًا مكعّبًا سنويًا، وتعتمد تمامًا على مياه تحلية مياه البحار.

نحن نأكل المياه أكثر مما نشرب!

لإيضاح الأمر، فإنّ المصدر الوحيد للغذاء في الكون هو قطاع الزراعة وبنسبة 95%، أمّا باقي الخمسة في المائة فللصيد المفتوح من البحار والمحيطات، وكذا للقنص البرّي في القليل من المجتمعات. والزراعة هي المستهلك الأكبر للمياه في العالم بمتوسط عام 70%، وترتفع هذه النسبة في البلدان العربية والدول النامية في أفريقيا وآسيا إلى ما بين 80% و90% من المياه العذبة المتاحة.

وتحتوي الخضراوات والفاكهة على نحو 80% إلى 90% من محتواها من الماء، كما أنّ إنتاجها يستهلك كمّيات كبيرة من المياه، ليس بسبب شراهة الغذاء نفسه للمياه، والذي لا يستهلك أكثر من 1% فقط ممّا يُضاف إلى الترب الزراعية من مياه الريّ أو الأمطار، ولكن لكون الماء الذي يتبخّر من سطح التربة الزراعية أو عبر أوراق النباتات بما نطلق عليه علميًا اسم "البخر نتح" بالإضافة إلى ما يفقد من مياه الريّ عبر قنوات وترع التوصيل للحقول، وفي داخل الحقول نفسها بالبخر والنشع والرشح العميق بين طبقات التربة.

جسم الإنسان يستمدّ نحو 50.3% من احتياجاته من المياه ممّا يتناوله من الغذاء

ولكن إذا علمنا أنّ فدّان الأرض الزراعية (4200 مترٍ مربعٍ) يستهلك سنويًا عند الريّ السطحي بالغمر نحو 7 آلاف مترٍ مكعبٍ سنويًّا (ربع هذا الرقم في الدونم، وضعفان ونصف ضعف في الهكتار)، فيتبيّن حجم المياه الكبير الذي تحتويه الخضراوات والفاكهة، بل وحتّى الحبوب الجافّة تحتوي على نحو 15% من وزنها رطوبةً أو مياهًا. ولهذا، يمكن القول إنّ الإنسان يأكل مياهًا عبر تناوله للغذاء أكثر من ألف مرّة قدر ما يشربه من المياه.

وللمزيد، نوضح أهمية الغذاء وما يحتويه من المياه، فإنّ جسم الإنسان يستمدّ نحو 50.3% من احتياجاته من المياه ممّا يتناوله من الغذاء، بينما يستمدّ 38.8% من احتياجاته من المياه ممّا يشربه وما يتناوله من مختلف أنواع المشروبات والعصائر، وكذلك تُوفّر عمليات الهضم نحو 11.2% من احتياجات جسم الإنسان من المياه.

وعلى ذلك، فإنّ أمن الغذاء للبشر يتضمّن أيضًا أمن المياه للجسم حيث تُمثّل المياه في جسم الإنسان أكثر من 70% من وزنه، وبالتالي فإنّ الأطفال والنساء على وجه الخصوص الذين يعانون من الجوع هم في حقيقة الأمر يعانون أيضًا من الجفاف ونقص المياه في أجسادهم، وقد يموتون بسبب نقص المياه في الجسم أولًا قبل نقص الغذاء والجوع. وبالتالي فنقص الغذاء يعني المعاناة من الجوع ومن العطش معًا، والموت عطشًا وجوعًا.

نذكّر بأنّنا عندما نتحدث عن الموارد المائية للدول وللأفراد فإنّنا نتحدث عن المياه العذبة فقط أو المياه الضرورية لحياة الإنسان وأنشطته الحياتية في الزراعة والصناعة والاستهلاك المنزلي وتوليد الطاقة والحفاظ على البيئة. وتُرتّبها "منظمة الأمم المتحدة للمياه" (UN Water) على أنّ الاستهلاك المنزلي هو أولوية الاستخدام تليه مياه الزراعة وأخيرًا مياه الصناعة وتوليد الطاقة والحفاظ على البيئة. أي يمكن القول إنّ أولوية استخدام المياه العذبة هي للشراب والطعام ثم للرفاهية. فالإنسان عاش قرونًا طويلةً دون صناعة ونام على الأرض وفي الكهوف، وليس على الأسرّة المصنّعة من الخشب ومن المعادن، كما نام في ظلّ الأشجار. ولم يعرف توليد الطاقة إلّا منذ أقلّ من مائةٍ وخمسين عامًا، ولم يعرف شيئًا عن معنى البيئة وأهمّيتها والحفاظ عليها إلّا مؤخّرًا. وتُحدّد الأمم المتحدة أيضًا أنّ المياه مملوكة للدول وليس للأفراد، وأنّ من حق الحكومات وحدها أن تنظّم توزيعها بين القطاعات المختلفة للاستخدام طبقًا لاحتياجات المواطنين من الماء والغذاء ثم الصناعة وغيرها.

أكثر ما يسبّب النّدرة العربية الحالية الزيادة السكانية المطّردة وكذلك السدود التي تبنيها دول منابع الأنهار

وينبغي أن نشير إلى أنّ الموارد المائيّة قد لا تشمل المياه المالحة للبحار والمحيطات على الرَّغم من استخدامها في إنتاج المياه العذبة من خلال تقنيات تحلية المياه المالحة، وعلى الرَّغم من احتوائها على الأسماك التي تمثّل غذاءً مهمًّا للأغلبية وللفقراء خاصة، فهي هنا حاوية فقط للأسماك، ولكنّها غير قابلة للشرب أو لإنتاج الغذاء. إذ ينبغي ألّا يزيد تركيز الأملاح في مياه الشرب على نحو 500 جزءٍ في المليون، أي نصف غرام أملاح فقط لكلّ ليتر مياه شرب أو نصف كيلوغرام لكلّ مترٍ مكعبٍ، وإلّا تُمثّل عبئًا على الكلى وتتسبّب في تكوين حصوات حجرية فيها، وقد تصيب البشر بالفشل الكلوي، كلّما زاد تركيز الأملاح الذائبة في الماء في طعامه وشرابه. بينما تتحمّل مياه الريّ حتّى ألفَي جزءٍ في المليون أو نحو غرامَيْن (2) من الأملاح لكلّ ليتر مياه، لأنّ طبقات التربة قادرة على احتواء تركيزات الأملاح وفلترتها قبل أن تمتصّها جذور النباتات.

وكذلك الأمر في المياه الملوثة أو مياه الآبار المسمّمة أو مياه المستنقعات العذبة الآسنة، أو المياه الناتجة عن الصرف الزراعي أو الصحّي أو الصناعي فجميعها لا تصنّف ضمن الموارد المائية إلّا بعد معالجتها والتخلّص تمامًا ممّا تحتويه من أملاح أو سموم أو من الميكروبات بمختلف أنواعها والأنواع الممرّضة كافّة. وكذلك، ينبغي في بعض المعالجات التخلّص من المعادن والفلزات الثقيلة وبخاصة الحديد والمنغنيز التي تدمّر الكلى، أو الأمونيوم وتأثيره في التخلّف العقلي، والبروم النّاتج عن صرف مصانع النسيج والصبغات وما يسبّبه من عقمٍ، أو الزئبق السامّ، وكذلك باقي الفلزات الثقيلة من نيكل وكادميوم وخلافهما.

من المتوقّع أن تتراجع الموارد المائية العالمية بنسبة 6% بسبب الاحترار العالمي وزيادة البخر

ومن أكثر ما يسبّب النّدرة العربية الحالية، الزيادة السكانية المطّردة، فمصر على سبيل المثال كان عدد سكانها منذ سبعين سنةً لا يزيد على 50 مليون نسمة، وأصبح الآن 110 ملايين بما يعني انخفاض نصيب الفرد من المياه إلى أقلّ من النصف ليصبح تحت حدّ الستر المائي. وقد تتسبّب السدود التي تبنيها دول منابع الأنهار في النّدرة المائية أيضًا، كما هي الحال في سوريا ولبنان بعد بناء سدود أتاتورك في تركيا ومثيلتها في إيران، وخفضها بنسبة 25 مليار مترٍ مكعب، ثم ادّعوا بعد ذلك أنّها نتيجةً لتغيّرات المناخ. وبالمثل أيضًا ما حدث مع نهر الأردن والذي كانت تذهب مياهه إلى الأردن فقط، ثم دخل شريك مُعتدٍ واستولى على جزءٍ من مياه النهر لينخفض نصيب الفرد من المياه في الأردن إلى 61 مترًا مكعّبًا فقط. وعمومًا من المتوقّع أن تتراجع الموارد المائية العالمية بنسبة 6% بسبب الاحترار العالمي وزيادة البخر.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن