بصمات

إمكانات السياسة الأخلاقية ومفهوم الكرامة!

إنّ الكلام عن الكرامة في أفق السياسة الأخلاقية يأتي ضمن مشهديةٍ واقعيةٍ تستحضر التفكُّرَ الفلسفي عن جدوى البحث في هذا المفهوم المتعلّق بالسيادة والهُويَّة والحضور السياسي المؤثر، كما بالشرعية السياسية والفاعلية الأخلاقية الاجتماعية أيضًا.

إمكانات السياسة الأخلاقية ومفهوم الكرامة!

هذه المشهدية اليوم هي الهزيمة العسكرية والسياسية معًا لمشاريع سلطوية كانت قائمة بقوّة الهيمنة وبسط النفوذ داخل الدول وعلى الشعوب، استثمرت في سياق التبرير لشرعية حضورها، إبراز الشعارات التحرّرية الكبرى التي تلامس الوجدان العام. لكنّ هذه البنى الهشَّة حضاريًّا، من حيث قلَّة عنايتها بالأمن الحضاري العام للمجموعة البشرية التي تنتمي إليها، ما لبثت أن انكسرت وتهاوت أمام قوة العدو العسكرية وخططه الاستراتيجية المُحكمة والمبنية وفق أحدث ما توصّل إليه العلم والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.

مأساة معيشيّة تستحضر شرعيّتها السياسية من المظلوميّة

عدا أنّ بعض هذه القوى والفئات التسلّطية قد سقطت بفعل الحراك الشعبي وما أدّى إليه من حوادث وتدخّلات خارجية أثَّرت في تقوية فلولها المهزومة وإعادة تكتُّلها ضمن هوياتٍ عصبيةٍ مبنيةٍ على ما يمكن تسميته مفهوم الكرامة التراجيديَّة، التي تفعل فعلها في تعطيل مشاريع الدولة وبنائها القوي المتين الذي يُمكِّن ازدهارَها وقوتها وعزّتها بين الأمم.

هذا الفهم التعصّبي للكرامة يقوم على اعتبار لحظة الهزيمة عينها لحظةَ انتصارٍ كبير، بحيث يجري تضخيم الحدَث ليصبح هو ذاتُه مَبْعَث الدلالة الكليَّة لمعنى الكرامة. وذلك بربط كثرة الموت الحاصلة فيه بمفهوم التضحية، وكذلك تصبح استدامة المعارك الخاسرة دلالةً على شرف القتال والولاء المُطلق والانتماء الكلّي والوفاء الأبدي، إنّه مشهد العناد الأعمى القائم على الإيمان بحتميّة الحدث الذي جرى، كأنه قدرٌ تاريخي كان لا بدّ منه في سبيل إحراز الكرامة.

ما يجري هو شيطنة مفهوم الجماعات الكبرى والأمّة وقيم الوحدة والاندماج والتآزر والمشاريع المشتركة

ترتبط الكرامةُ في هذا السياق بمأساةٍ معيشيّةٍ تستحضر شرعيّتها السياسية من المظلوميّة المُواكِبة لحياة هذه الفئة أو تلك ممّن خاض معركةً خاسرة. هذه المشاعر المُتراكمة كمًّا ونوعًا لم يعد بإمكاننا الحديث عنها سوى من جهة تأثيرها القوي في تشكيل الذاكرة السياسية للفرد والجماعة. وهذا التشكيل القصدي للذاكرة لا يتناهى، بل يُرافق هذه الجماعة في أي مرحلةٍ زمنيةٍ تأتي بعد الحدث المأساوي الأول، الذي لا يمكن نسيانه بفعل تضخيمه المتكرّر ليبقى جزءًا لا يتجزّأ من هويّة الفرد الذي صار يُقدِّسُ اللحظة عينها التي حدث خلالها، لدرجة أنّ الحدث ذاته صار لحظةً إيمانيةً مُثلى تشكِّل في الواقع قوةً تأثيريةً شديدة الفاعلية قد تطيح بقيم الانتماء الاجتماعي إلى الوطن، وتُرسِّخُ ذهنية الاستخفاف بالدولة والنظام العام.

والكارثة التي تنجم عن هذا الجمود الفكري المُلائم لبروز هذه الجماعات النابية على هوامش الحوادث الرئيسية الجارية في الدولة والمجتمع، هو تبنّي المشروع الدائم لإفشال الدولة. وذلك بتوليد حالة النفور المُطلق من الانتماءات الكبرى، وقيم العيش المشترك التي يسعى إليها الإنسان في كلّ نضالاته ومسيرته التاريخية الحافلة. والأنكى هو مطالبة مثل هذه الجماعات بالانعزال أو الانفصال أو الاستقلال أو الأمن الذاتي، وهذا ما لا يتحقَّقُ لها إلّا بمعاونة الدول أو الجهات المُعادية للدولة من خارجها، فتورِّط هذه الخيارات الضحلة أبناءَ المجتمع الذي تتسلّط عليه بمسالك قاتلة، أقلُّها الاستهانة بالعمالة وتبريرها، وعدم الاكتراث بالجماعات الأخرى داخل الوطن والأمّة، بل ما يجري هو شيطنة مفهوم الجماعات الكبرى والأمّة وقيم الوحدة والاندماج والتآزر والمشاريع المشتركة. ويكثر الشتم واللعن والتخوين الذي من شأنه أن يُربك السياسة العامة للبلاد ويورّطها في عدم الاستفادة من أي فرصة تُمكّنها من تحسين أدائها التنموي والإعماري.

قد تُصبح الهزيمة نقطة انطلاق واعية للحدث

ولمّا كان من طبيعة البشر أن يخوضوا تجارب الحكم والسياسة، فمن العادي جدًّا ألّا تكون أوضاعهم كلّ الوقت مستقرّةً على وتيرة واحدة، فهناك صعود وهبوط، ربح وخسارة، ظهور وضمور، أي دوام التقلُّب والتبدّل، وهذه طبيعة العيش المنتج. لذا يجب من باب حفظ الكرامة الفردية والاجتماعية أن يفهم الإنسان شروط الواقع في كلّ حين، كي يقدر على تجاوز مثالبه وتأسيس كيانه الحرّ في كل مرة. فالكرامة ليست نقيض الهزيمة، بل قد تُصبح الهزيمة نقطة انطلاقٍ واعيةٍ للحدث فتتحوَّل إلى فسحةٍ تفكّريةٍ لمراجعةٍ أخلاقيةٍ شاملةٍ، تُعزّز فرصةَ ابتداء فلسفة سياسية قوامها الكرامة.

هذه السياسة الأخلاقية تتطلّب الشجاعةَ في محاكمة الضمير بمقتضى الحاضر، أي بإخضاع مدّخرات الذهن التي استطاعت أن تكون ثوابت للتحرّك يومًا ما إلى شروط العيش الرّاهن التي من شأنها تثقيف زوائدها وتعزيز نوابتها الحيّة الملائمة لاستئناف العيش الكريم. إنّ تغيير طرائق العيش ليس تنازلًا عن الهوية الذاتيّة للفرد، بل هو اقتدارٌ وتمكّن يعزّزان فرص انوجاد هذا الفرد الحرّ في مجتمعه. وأوّل لحظة في ابتداء البناء الأخلاقي للإنسان في عيشه هي لحظة الاعتراف بالهزيمة إذا ما حصلت. وهذا الإقرار يُنجز أول لحظةٍ تحرّريةٍ شجاعةٍ وهي التجاوز، فتجاوُز الحدث هو الذي يُمكّن من البناء والتخطيط وملازمة الحاضر بدلًا من الماضي، ذلك أنّ الحقد على ما لم يحصل حتى الآن يهدم كل الوسائل الممكنة لإنجازه.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن