لم يعد مُستساغًا من المدرسة العموميّة، نظرًا لضغوط سياسية اقتصادية نيو ليبيرالية، أن تظلّ فضاءً عموميًا لتذويب الفوارق وإدماج الأفراد في تجربةٍ مشتركةٍ يُحرّكها مبدأ المساواة في الفرص وحقّ الصعود الاجتماعي العادل. لقد تآكلت هذه الأدوار وسقطت أهدافها لمّا تراجعت الدّولة عن الاستثمار في المبادئ التّي أُسِّست عليها المدرسة العمومية في الأصل، وانتهجت خطّة توطيد التعليم الخاص الذي وضع أسُسًا تربويةً جديدةً على أساسٍ طبقيّ مُجحف.
المدرسة العمومية في الدول المتقدمة تظلّ فضاءً أصليًا لتكافؤ الفرص وإثمار روح المواطَنة
قد يحتجّ البعض بكون هذه الظاهرة عرفت نجاحًا في الدّول الغربية. غير أنّ الأمر ليس كذلك، لأنّ التعليم الخاص في الدّول المتقدّمة يندرج ضمن سياسة عمومية تُعضّد المدرسة العمومية ولا يقدّم نفسه كبديلٍ عنها. بل تظلّ هذه المدرسة مُنطلق الجودة وفضاءً أصليًا لتكافؤ الفرص وإثمار روح المواطَنة. ومن ثمّ، تبقى وظيفة التعليم الخاص فيها تكميليّةً تحتضن تخصّصاتٍ إضافيّةً وأهدافًا خاصّة.
إذا كان التعليم الخاص في أميركا الشّمالية نخبويًا ومكلفًا، فإنّ ما يُميّز سياستها التعليمية وجود نظام "المدارس المستقلّة" التي تجمع بين العام والخاص بتمويلٍ عموميّ. أمّا في شرق آسيا، فيظلّ التعليم العمومي رهانًا دولتيًا، يكون فيه الخاص آليةً للدّعم والتّمكين من التفوّق الأكاديمي، كما هو الشّأن في أوروبا الغربية، هاهنا لا يتحوّل التعليم الخاص إلى مجالٍ للفوارق الطبقيّة، لأنّه يعمل وفق رؤية مستنبتة من سياسة عمومية تؤطّرها قوانين صارمة. كما يعكس مبدأ التعدّدية التربوية والديداكتيكيّة داخل منظومة قويّة ومُتماسكة.
أمّا التعليم الخاص في السياق العربي، فهو انعكاس لأزمة بنيوية عمومية وسياسية، لأنّه لا يقدّم نفسه كخيارٍ بيداغوجي حرّ أو توجّه معرفي لبناء الإنسان، وإنّما كردّ فعلٍ لفراغ مقصود أحدثته الدّول العربية. من هنا فالتعليم في بلادنا قد انزاح عن الحقّ المشترك ليصبح سلعةً تستثمر فيها الفئات المَيْسورة عبر الخصخصة، بهدف تأهيل أبنائها للصعود إلى السلطة وتعميق الفجوة بينها وبين الفئات الهشّة المُكدّسة في المؤسّسات العموميّة.
لا تقف عملية التسليع هذه عند البُعد الاجتماعي والسياسي فقط، بل تمتدّ إلى منظومة القيم بترسيخها للطابع النّفعي البراغماتي الذي يُعيد تعريف وظيفة التّعلم وفق حاجة السوق ومنطقه، دونما أيّ اكتراث لمطلب تكوين الإنسان المواطن القادر على الانخراط في مشاريع وطنية وقيم العدالة.
التعليم الخاص في البلاد العربية أداة لتفكيك المشترك الوطني والعروبي
يبقى معنى المدرسة الخاصة وفق هذا التوجّه، آليةً ذاتيةً مُنغلقةً لا تخرج عن دائرة تعلّم اللغات الأجنبيّة، والسعي إلى اكتساب مهارات ضيّقة لا يربطها بالمجتمع إلّا البحث السّريع عن وظيفةٍ شُغليةٍ تكون في مقدّمة الوجاهة الاجتماعية. ومن نتائج هذا التوجّه، سلب الفرد القدرة على امتلاك رؤية شمولية للعالم، يُسائل من خلالها واقع مجتمعه وأمّته. فعِوض الحديث عن شخصية عربية واعية بعروبتها وبمهامّها التاريخية والاجتماعية والسياسية، نكون أمام شخصية مجبولة بالخلاص الذّاتي، ومُتماهية مع السّوق التي لا تتصالح معها إلّا إذا كانت ذاتًا للاستهلاك وغير مباليةٍ بالمعارضة والنّقد.
تبقى النتيجة المنطقيّة للتعليم الخاص في البلاد العربية، وفقًا للأهداف الموضوعة له، أداةً لتفكيك المشترك الوطني والعروبي، لأنّها لا تُنتج مواطنًا عربيًا بالمعنى السياسي والأخلاقي، بل فردًا مهنيًا محمولًا على قلق النجاح الفردي في سوق عالمية شديدة التذبذب.
(خاص "عروبة 22")