لقد كانت الطباعة مثلًا والتلغراف والهاتف والراديو والتلفزيون وأشرطة الكاسيت كلّها ذات تأثير مباشر في التغيّرات الاجتماعية التي تلتها. من ذلك مثلًا، ساهم اختراع الطباعة في دعم تمرّد مارتن لوثر ضدّ الكنيسة الكاثوليكية في القرن الخامس عشر، وساعد التلغراف الرئيس أبراهام لينكولن على الفوز في الحرب الأهلية الأميركية ضدّ الكونفيدرالية.
من بين الأمثلة أيضًا، توظيف الراديو بفعاليةٍ كأداة دعايةٍ من قبل الحلفاء في الحربَيْن العالميتَيْن الأولى والثانية، في حين استخدم هتلر ووزير دعايته غوبلز السينما والراديو وتقنيات الاتصال المتطوّرة لتعزيز ودعم الحزب النازي. إلى جانب ذلك، أظهرت الحرب الباردة أهمية تقنيات الاتصال مثل الطباعة والراديو والتلفزيون في تشكيل وبناء السرديّات الإيديولوجية.
أثبتت كلّ تقنية اتصال ناشئة فائدتها في الحروب والنزاعات
مع نهاية القرن العشرين، أفسحت الإنترنت المجال لظهور شبكات التواصل الاجتماعي، وتطبيقات الهواتف الذكية وخدمات الرسائل الفورية والمدوّنات والمشاريع التعاونية، والعوالم والألعاب الافتراضية، ممّا منح جمهور الشبكيين ــ الذي انتقل حيّز واسع من حضورهم الواعي إلى الشبكات ووسائل التواصل الاجتماعي ــ القدرة على التواصل والتعاون والتنقّل افتراضيًا، وإمكانية بناء وتشكيل المعنى والخطاب الاجتماعي والسياسي والعقدي وغيره، عبر تحويل الدور التقليدي للناس من مستهلكين سلبيين، إلى منتجين نشيطين للمحتوى، وذلك عبر مجموعةٍ من الوظائف مثل المدوّنات والويكيّات والتعليقات والإعجابات والتغريدات.
من جهةٍ أخرى، أثبتت كلّ تقنية اتصال ناشئة فائدتها في الحروب والنزاعات، ولأولئك الذين يتحدّون الأنظمة، سواء كانت نضالاتهم من أجل الإيديولوجيا أو الأرض أو السلطة، ولذلك تورّطت الشبكات الاجتماعية وعلى نحوٍ مباشرٍ وعلنيّ في سياق صعود الحركات الاحتجاجية الشبكية. من قبيل ثورات "الربيع العربي"، و"ثورة المظلّات" في هونغ كونغ، و"ثورة غاضبون" في إسبانيا، وحركة "احتلوا وول ستريت" في أميركا وغيرها، إذ تحوّلت الشبكات الاجتماعية في سياق الاحتجاجات الشبكيّة إلى ساحاتٍ لنشر خطابات مُضادّة للسلطة الرسمية سواء عبر صور وفيديوات مُسرّبة، أو شهادات مباشرة من الساحات والشوارع، أو سرديّات بديلة للنظام أو السلطة. وحتى بعد موت هذه الحركات أو انكماشها، لجأ أصحابها إلى بناء ذاكرةٍ رقميةٍ مضادّةٍ، عبر أرشفة الانتهاكات وتوثيق الجرائم والشعارات والخرجات، من أجل ضمان استمرار سرديّة الثورة وإلهامها لأجيال المستقبل.
تغريدات وتريندات الرواية الفلسطينية تحوّلت إلى قضية عالمية مركزية وثقافة احتجاجية رقمية
ضمن توجّهٍ آخر، وفي سياق الحرب على قطاع غزّة، تورطت الشبكات الاجتماعية وعلى نحوٍ عالمي في إنتاج سرديّات فلسطينية تُعرّي وتكشف همجية حرب الإبادة، كما تتحدّى الرواية الرسمية للجيش والحكومة الإسرائيلية، باعتبارها حربًا نظيفةً يقودها الجيش الأكثر أخلاقيةً في العالم. على النّقيض من حرب الخليج التي دخلت مع انطلاقها مدار الحجب والإخفاء - بفضل قدرة الجيش الأميركي وحلفائه حينها على التحكّم في الرواية الرسمية للحرب - انتصرت تغريدات وتريندات الرواية الفلسطينية وعلى أوسع نطاق، ونجحت في تجاوز قيود ورقابة قنوات الاتصال التقليدية والرسمية العالمية مثل التلفزيون والراديو والجرائد. وتحوّلت من حركات تمرّدية هامشية وغير مرئية، إلى قضية عالمية مركزية، وثقافة احتجاجية رقمية تسيل وتتدفّق عبر العقد الشبكية في سياقٍ فيروسيّ غير قابل للحصر أو الإخماد الرقميين، إلى أن وصلت إلى قبّة البرلمانات الأوروبية، وهيمنت على مدار نقاشات وتغالبات حكوماتها، كما وصلت إلى حدّ إسقاط بعضها (هولندا)، الأمر الذي سمح ببناء شبكات تضامن عابرة للحدود حاولت أكثر من مرة كسر الحصار وكشف تهافت الرواية الإسرائيلية ومناصريها، وذلك بأكثر من طريقة وأسلوب.
داخل شبكات الإنترنت وفضاءاتها تحيا ثقافة المقاومة الرقمية
من ذلك مثلًا استخدام استراتيجيات رقمية هجومية عبر الهاكرز النشطين، أو اللجوء إلى التشفير والتحايل وبناء منصّات وفضاءات رقمية مقاومة. أو تكثيف دور المستخدمين السلبيين الذين يسعون إلى التبليغ ضدّ الحسابات والمنشورات المعارضة للسرديّة الفلسطينية، أو وضع علامات عدم الإعجاب، مثلما حدث في آخر بودكاست أميركي حظره رئيس الوزراء الإسرائيلي، حيث تجاوزت علامات عدم الإعجاب 3 أضعاف علامات الإعجاب، وانسحب من صفحة البودكاست 10 آلاف متابع في يومٍ واحد.
ما نعاينه اليوم، أنّه داخل شبكات الإنترنت وفضاءاتها الرقمية والشبكية، تحيا ثقافة المقاومة الرقمية وتُغرَّد فصولها ومحطاتها عبر منصة "إكس"، وتدوّن آلامها وعذاباتها على منصات "إنستغرام" و"فيسبوك"، وتصوّر وتشاهد لقطاتها عبر "تيك توك"، وتتنافس جنبًا إلى جنب مع ثقافة أصحاب الأموال ومستثمري اقتصاد الإبادة، وتنشر سرديّتها جنبًا إلى جنب مع سرديّة قنوات الإعلام والاتصال التقليدية. وكلّها فواعل وقوى تسعى اليوم لفرض سرديّة جماعية تحظى بالإعجاب والقبول وتمارس نفوذًا وتأثيرًا قد لا يكون مرئيًا، ولكنّه حتمًا سيكون قادرًا في أي لحظة على قلب الطاولة وقيادة التغيير.
(خاص "عروبة 22")