معلوم أنّ العبارتَين أعلاه، هما جزء من تغريدة منزوعة السياق، أطلقها توماس باراك كطلقةٍ أشعلت نقاشًا حول المضامين العميقة لتغريدة المبعوث الترامبي إلى سوريا. وذهب البعض إلى نبش تاريخ الرجل والتنقيب في ماضي أجداده، وذهب البعض منهم إلى حدّ الغزل السياسي بالرجل، وذهب بعض آخر إلى فبركة تاريخ (شبيه بفبركة الأنساب) لعائلة الرجل الزّحلاوية والمتأثّرة بـ"أنطون سعادة".
الاستراتيجية الأميركية تقوم على صياغة نظام أمني إقليمي تتبوّأ فيه إسرائيل مركز القيادة والسيطرة
مساحيق سرعان ما أزالها باراك بنفسه، كما أفصح بلغته المُتغطرسة بحقّ الإعلاميين في منصّة القصر الرئاسي اللبناني. وبديهي أنّ باراك لم يكن يُعبّد الطريق لمهمته في سوريا ولبنان، بقدر ما كان يُعبّد الطريق أمام نتنياهو باتجاه "اسرائيل الكبرى" فيعلن طيّ صفحة ودور صنّاع سايكس - بيكو، ويُكمل إطلاق الرصاص السياسي الذي بدأه دونالد رامسفيلد حول "أوروبا العجوز" من فوق ركام بغداد بعد احتلالها وغزوها عام 2003.
بعد أشهر على تلك التغريدة، أتحفنا باراك بتصريحاتٍ أشدّ خطورةً تؤكّد دفن الإدارة الأميركية لـ"سايكس - بيكو". فكشف عن تحوّلٍ جذريّ في المفهوم الإسرائيلي، حيث تغيّرت قواعد اللعبة في المنطقة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023، قائلًا: "في نظر إسرائيل، هذه الخطوط والحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس - بيكو لا معنى لها... وسيذهب الإسرائيليون حيثما يشاؤون، ويفعلون ما يشاؤون وقتما يشاؤون".
عمليًا، تُظَهِّر تصريحات باراك، كلّ تضاريس الاستراتيجية الأميركية، التي تقوم على صياغة نظام أمني إقليمي تتبوّأ فيه إسرائيل مركز القيادة والسيطرة. حرفيًّا، لقد صدّق باراك أطروحات بنيامين نتنياهو حول "إسرائيل الكبرى"، بل إنّ الموقف الأميركي يستبق مدارات السيطرة النارية الإسرائيلية بأشواط بعيدة وعلى طول الجبهات التي تُقاتل فيها إسرائيل المُدجّجة، فضلًا عن الضعف العربي، بكل ترسانة الغرب الأميركي والأوروبي.
النّعي الأميركي لـ"سايكس - بيكو" يقوم على إعادة رسم الخرائط على أسُس طائفية ومذهبية وعرقية وإثنية
صحيح أنّ اتفاقية "سايكس - بيكو" قسّمت المنطقة العربية إلى دول، بأديان وإثنيات وقوميات متنوّعة، وأدّت قسطها للعُلا في تهشيم الواقع العربي العام. لكنّ الصحيح أيضًا أنّ النّعي الأميركي لـ"سايكس - بيكو" يقوم على إعادة رسم الخرائط والشرائط وصياغة الحدود على أسُسٍ طائفيةٍ ومذهبيةٍ وعرقيةٍ وإثنية. كما هي الحال في سوريا الجديدة، التي بات واضحًا أنّ الكلام عن تقسيمها او فدرلتها أو أقلمتها، يتظهّر شرقًا وغربًا وجنوبًا ووسطا. وبات الكلام عن الإقليم السنّي والإقليم الدرزي والإقليم العلوي والإقليم الكردي أمرًا مطروحًا بين هذه البيئات وحتّى لدى قيادة دمشق، التي نُسب إليها توجّه لاعتماد "اللّامركزية الإدارية" تحت سقف الدولة المركزية.
شبح التقسيم الذي يُخيّم على سوريا، وكأنّه خشبة الخلاص لـ"الشعوب السورية"، سيكون له ارتداداته العنيفة في دول جوار سوريا، أي لبنان والأردن والعراق وتركيا. ما يعني أنّ مقصّ الشرائط سيعبث وفق العقيدة الإسرائيلية - الأميركية في مكوّنات هذه البلدان بحجّة "حماية بعضها من نفسه ومن بعضها الآخر".
وفي إطار اندفاعة نتنياهو المحمومة لتغيير الشرق الأوسط الجديد، نجد ألسنة اللّهب تطلّ برأسها على جبهات ومحاور عدّة...
فلسطينيًّا، إسرائيل تستعدّ لاحتلال كامل قطاع غزّة وضمّ بعض مدن الضفّة الغربية، توازيًا مع "بلطجة" أميركية بسحب التأشيرات عن رموز السلطة الفلسطينية بهدف إجهاض التصميم الفرنسي - الأوروبي على الاعتراف بدولة فلسطينية.
لبنان أمام تحوّلات دراماتيكية وتسريبات عن قُرب توجيه ضربات لمواقع الفصائل العراقية الموالية لإيران
يمنيًّا، بعد مقتلة رئاسة وزراء صنعاء، ترقّب شديد الحساسية لردّ الحوثيين على استهداف حكومتهم، في ظلّ تأكيد حوثي واسع عن إدخال أسلحة جديدة ونوعيّة في حربٍ بأهداف متنوّعة.
لبنانيًّا، حصر سلاح "حزب الله" بيد الدولة اللبنانية دخل مختنقاته الخطيرة، وبات لبنان أمام هول تحوّلات دراماتيكية، حيث إنّ المعجزة وحدها ما يمنع استئناف الحرب، بعدما وجد "حزب الله" وحليفه الرئيسي نبيه بري نفسَيْهما أمام معركة وجوديّة تستهدف السلاح و"العقيدة" معًا. مع ترسّخ قناعاتٍ "حزبلّاهية" عميقةٍ بأنّ نتنياهو سيجتاح الجنوب في الساعة الثانية لنزع السلاح، بهدف إنشاء الحزام الأمني الممتدّ إلى جنوبي سوريا وعاصمته الكِيان الدرزي الوشيك.
عراقيًّا، تطايرت التسريبات عن قُرب بدء توجيه ضرباتٍ جويةٍ لمواقع الفصائل العراقية الموالية لإيران، بعد أسابيع من تحليق طيران الاستطلاع المُسيّر والمأهول، فوق الأردن باتجاه الدواخل العراقية. واللّافت أنّ هذا الرصد التجسّسي تَرَكَّزَ على "المواقع البديلة الثالثة" لقيادات ومقرّات "الفصائل الولائية"، الأمر الذي عزّز الشكوك والتوجّسات داخل بيئات وحواضن هذه الفصائل التي ما كان لها أن تنموَ وتتغوّل على الدولة وتقفز إلى كرسي بغداد لولا التخادم الإيراني - الأميركي.
سوريًّا، بعد تظهير تدرّجي لمسوّدة الأقاليم، سُجّل اشتباك اسرائيلي - تركي انطلاقًا من موقع الكسوة في ريف دمشق، حيث نفّذت إسرائيل إنزالًا واستعادت معدّات سبق أن زرعتها، بعدما كشفها السوريون. كما قصفت مواقع تحوي منظومات دفاع جوي عملت تركيا على تفعيلها مؤخّرًا خلافًا للخطوط الحمراء الإسرائيلية، كما قصفت أيضًا مواقع فصائل "الإيغور" المقرّبة من تركيا في اللاذقية!.
خطوات استباقية للحرب الأميركية - الإسرائيلية المرتقبة ضدّ إيران
تركيًّا، يبدو أن تركيا استأنفت بالأمس تفعيل آليات الاشتباك مع "قوات سوريا الديمقراطية"، وأخذت تدرك مخاطر أطروحات توماس باراك التقسيميّة، الأمر الذي يهدّد أمنها القومي ونسيجها الاجتماعي، توازيًا مع اعتبار مراقبين أنّ تغيير قيادة "حزب الشعب الجمهوري" المعارض بزعامة كمال كيليجدار أوغلو ترفع اليوم شعار "العلوية"، ما يشي بأنّ تركيا باتجاه تقسيم طائفي يُجهز على علمانيّتها ويُشكّل خطرًا عليها.
ما تقدّم خطوات استباقية للحرب الأميركية - الإسرائيلية المرتقبة ضدّ إيران، بشهادة تقاطر قاذفات ومنظومات "ثاد" الأميركية إلى إسرائيل، ما يضاعف السؤال عن ردّ فعل قمّة زعماء الهند وكوريا الشمالية وتركيا وإيران وروسيا في الصين.
لكنّ الأهم، ماذا عن ردّ إيران ووعيدها؟ وعن تهديد "حزب الله" بـ"إيقاف التعاون مع الدولة جنوبي الليطاني"؟!.
(خاص "عروبة 22")