بمناسبة مرور 85 عامًا على تأسيس الجيش، قدّم حفتر ابنَيْه إلى مواطنيه والمجتمع الدولي فجأةً، في مناصب مستحدثة، في إطار رؤيته لتطوير الجيش بحلول عام 2030.
عبر بيان مقتضب، تجاوز حفتر الذي سيُكمل عامه الـ82 في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، كلّ القيادات التقليدية، واضعًا نجله صدّام في منصبٍ يؤهّله لاحقًا لخلافته عسكريًا وسياسيّا.
كما عيّن ابنه الآخر خالد رئيسًا للأركان خلفًا للفريق عبد الرزاق الناظوري، الذي عيّنه مستشارًا للأمن القومي، في خطوة كلاسيكيّة تشبه الركلة إلى الأعلى.
على خطى سلفه العقيد معمّر القذافي، الذي تمرّد عليه وأمضى ربع قرن في منفاه الأميركي، كثمنٍ لمعارضة الخارج، يُعيد حفتر إلى الأذهان محاولات توريث السلطة.
وعاصر حفتر على الأقل 12 إدارة أميركية وأكثر من 30 حكومة غربية، كما شهد 8 محاولات بارزة للتوريث، أهمّها طرح القذافي نجله الثاني سيف الاسلام، عبر مشروع "ليبيا الغد"، بصلاحيات شكلية، والذي فشل مع اندلاع ثورة 17 فبراير/شباط 2011 وسقوط النظام.
ذاكرة التوريث
كما عاصر محاولةً مماثلةً من رئيس مصر الراحل حسني مبارك إلى نجله جمال، الذي صعد داخل الحزب الحاكم آنذاك، وسط معارضة سياسية وشعبية واسعة أدّت لاحقًا لثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 وسقوط مبارك.
وفي العراق، حيث سمّى حفتر نجله صدّام إعجابًا بالرئيس العراقي الراحل، عاين محاولةً خجولةً لتوريث عُدي أو قُصي في أواخر التسعينيّات، لكنّ التوريث لم يكتمل بسبب الغزو الأميركي عام 2003 وسقوط النظام.
وربّما المرة الوحيدة، التي شهدت نجاحًا عربيًا لتوريث السلطة، حين عايش حفتر توريث حافظ الأسد في سوريا لابنه المخلوع الهارب بشار عام 2000.
وفي أفريقيا، كان حفتر شاهدًا على أربع محاولات توريث ناجحة، أقربها جغرافيًا في تشاد، بتولّي محمد إدريس ديبي القيادة خلفًا لوالده إدريس ديبي المقتول عام 2021.
وجرى تعيين صدّام، الذي يفتقر إلى خلفية عسكرية معتبرة، نائبًا لأبيه، بينما ترأس شقيقه خالد أركان الوحدات الأمنية وأسّس اللواء 106، الذي لعب دورًا في مكافحة الإرهاب.
البرغثي: خيانة للتراتبيّة العسكرية
وبينما تمرّ البلاد في أدقّ مراحلها السياسية، وسط محاولات أممية ودولية لتوحيد المؤسّسات الليبية وإنهاء الانقسام، يُثير تعيين نجلَيْ حفتر تساؤلاتٍ عميقةً حول نوايا التوريث السياسي داخل المؤسّسة العسكرية في الشرق.
يقف وزير الدفاع الليبي السابق محمد محمود البرغثي، ضدّ التوريث بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ، سواء كان ذلك في حكم الدولة (أي انتقال السلطة من الحاكم إلى ابنه أو أحد أفراد عائلته)، أو في المناصب السيادية والعسكرية داخل الدولة، بما في ذلك الجيش.
وشرح البرغثي لـ"عروبة 22"، كيف أنّ التوريث والمحسوبيّة أضرّا كثيرًا بالجيش الليبي بعد عام 1969، وأدّيا إلى فقدان الكفاءات وتقويض نظام التراتبيّة والانضباط العسكري.
واسترجع البرغثي طبيعة الجيش النظامي خلال فترة الملكية وقبل انقلاب عام 1969، حين كان جيشًا مهنيًا تراتبيًا، يعتمد في ترقية ضباطه على التفوّق الأكاديمي في الكليات العسكرية البرية والبحرية والجوية، من دون تمييز، سوى بالكفاءة والسلوك والسيرة الذاتية.
توازن قوى أم صفقة إقليمية؟
بدوره، أكّد الكاتب ورئيس حزب الائتلاف الجمهوري عز الدين عقيل، أنّ جوهر الأزمة لا يكمن في حب أو كراهية صدّام حفتر، بل في تداعيات هذا التعيين على مستقبل الدولة الليبية ومسار الأزمة.
من وجهة نظره، فإنّ القرار يأتي ضمن تفاهمات إقليمية ودولية جرت في قمّة إسطنبول بمشاركة واشنطن وأنقرة، وتهدف إلى ترؤس الدبيبة حكومةً موحدةً، معتبرًا أنّ التعيين جاء استجابةً لرغبة أميركية في خلق "توازنٍ قويّ" جديد بين الشرق والغرب عبر ثنائية: الدبيبة – صدّام حفتر.
وتنظر موسكو بقلقٍ شديدٍ لهذا التحوّل وترفض إقصاءها، ما دفع عقيل للتحذير من أنّ التنافس الأميركي - الروسي قد يُفشل كلّ الترتيبات ويُعيد البلاد إلى المربع الأوّل.
وعلى الرَّغم من غياب مسيرتهما العسكرية، يبقى صعود نجلَيْ حفتر، أقرب إلى ظاهرة التوريث، في ظلّ رفض المجلس الرئاسي وحكومة الدبيبة، ومباركة برلمان طبرق، روسيا، مصر، وصمت واشنطن.
"ما حدث، لم يكن ليتمّ من دون مشاورة حفتر حلفاءه المقرّبين"، هكذا لخّص ديبلوماسي عربي في بنغازي المسألة لـ"عروبة 22"، على الرَّغم من رهان البعض على أنّ حفتر بصدد ترتيب أوراقه، وليس التقاعد.
يكتفي حفتر الآن بنفي تحريك قواته، وبمعاينة الحشود العسكرية في طرابلس التي يهدّد سكانها بالعصيان، ودخول ميليشيات مصراتة إلى معركةٍ تبدو وشيكةً، ضدّ جهاز الردع، لإكمال سيطرة الدبيبة على العاصمة.
ظاهرة التوريث، في ظلّ رفض المجلس الرئاسي وحكومة الدبيبة، ومباركة برلمان طبرق، وروسيا، ومصر، وصمت واشنطن.
بحسب مسؤول عسكري في الشرق لـ"عروبة 22"، فإنّ "حفتر لا يستطيع التدخل، حتى لو أراد، فثمّة تفاهمات إقليمية جرت في هذا الخصوص" مضيفًا "أنّ تدخله سيوحّد أعداءه، بالتأكيد".
ومع أنّه تعهّد سابقًا بالتدخل لتحرير طرابلس مُجدّدًا، فقد تجاهل حفتر دروس التاريخ وحقائق الواقع الليبي المنقسم والهشّ، ومضى في طريق التوريث، على الرَّغم من معرفته بالمصير الدراماتيكي لمَن سبقوه، ودرايته بالثمن الباهظ للدم والفوضى.
(خاص "عروبة 22")