ليست مشاجرة أطفال!

هل صحيح أن الحرب الروسية الأوكرانية مشاجرة أطفال، أم أنها تعكس جانباً مهماً من الصراع على المصالح والقومية والنفوذ العالمي، ما بين روسيا والغرب بأكمله؟، واحدة من صفات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، هي تسطيح وتبسيط أي قضية مهما كانت مهمة وخطيرة. آخر هذه القضايا هي الحرب الروسية الأوكرانية حينما وصفها بأنها مشاجرة بين أطفال، تحتاج إلى أن تستمر قليلاً قبل أن يكونوا مستعدين للتوقف.

في ظني وظن كثيرين أن هذه الحرب فصل مهم في صراعات القوى الكبرى على النفوذ والمصالح والرغبة في السيطرة والهيمنة. وبالتالي فإنه يستحيل أن تكون مجرد شجار بين أطفال كما قال ترامب. نتذكر أن هذه الحرب اندلعت في 22 فبراير 2022، حينما دخلت القوات الروسية إلى أوكرانيا تحت مسمى "عملية عسكرية خاصة". السؤال لماذا دخلت هذه القوات إلى أوكرانيا، هل لشجار مع الأطفال الآخرين؟!

الإجابة هي لا، فروسيا وكما تؤكد دائماً فإنها كانت تسعى لتحقيق أهداف جوهرية أولها منع انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، حتى لا تجد روسيا قوات هذا الحلف ترابط على حدودها، وبالتالي تتحول أوكرانيا إلى مركز تهديد لأمنها القومي، وثانياً حماية الأقليات الناطقة بالروسية خصوصاً في إقليمي دونتسيك ولوغانسك وقد سيطرت روسيا على أغلب أراضي هذين الإقليميين، وأعلنت ضمها إلى أراضيها، بعد شهور من بدء العملية العسكرية. في المقابل تقول أوكرانيا إنها دولة مستقلة ويحق لها أن تنضم إلى الناتو أو الاتحاد الأوروبي، ولا يحق لروسيا الاعتراض.

حجة روسيا أن الغرب خصوصاً أمريكا خانوا الوعود التي تم تقديمها لموسكو عقب تفكيك الاتحاد السوفيتي في عام 1991، بأن حلف الناتو لن يتمدد شبراً في دول أوروبا الشرقية التي كان معظمها أعضاء في حلف وارسو العسكري المناوئ لحلف الناتو. ونعلم يقيناً أن الناتو تمدد في معظم دول أوروبا الشرقية، بل وصل إلى دول البلطيق المجاورة لروسيا.

من يتذكر الأيام والأسابيع التي سبقت اندلاع الحرب سيعتقد أن أمريكا في عهد الرئيس، جو بايدن، ربما تكون قد ساعدت في تهيئة الأجواء في توريط روسيا في "المستنقع الأوكراني"، في ذلك الوقت كانت التسريبات الأمريكية تتوالى بأن روسيا ستدخل أوكرانيا، ومن وجهة أخرى تستفز موسكو بأنها لن تكون قادرة على ذلك. وسواء صح هذا الاستنتاج أم لا، فإن نتائج العملية العسكرية لم تكن نتيجة "مشاجرة بين أطفال". الواقع يقول إن الكاسب الأكبر حتى الآن من هذه الأزمة هي أمريكا، والخاسر الأكبر هي أوكرانيا التي ينطبق عليها المثل القائل: "حينما تتقاتل الأفيال فإن العشب يكون هو الضحية".

عملياً تعرضت روسيا لأكبر عملية استنزاف في تاريخها الحديث، وتعرضت منذ دخولها أوكرانيا لأكبر عقوبات عرفها التاريخ الإنساني الحديث، أما أوروبا فكانت الخاسر الأكبر بعد أوكرانيا. قبل الحرب كانت القارة العجوز تتمتع بحماية أمريكية بصورة شبه مجانية، وكانت تحصل على معظم احتياجاتها من الغاز والنفط من روسيا وبأسعار منخفضة، ومع بداية الحرب تم قطع الغاز الروسي، ما اضطر أوروبا إلى استيراد معظم احتياجاتها من الغاز من أمريكا عبر شحنات الغاز المسال وبأسعار أكثر من ضعفي الغاز الروسي.

وحينما وصل ترامب للبيت الأبيض للمرة الثانية أجبر أوكرانيا على سداد كل ما حصلت عليه من مساعدات أمريكية سواء كانت اقتصادية أو عسكرية، عبر رهن المعادن الأوكرانية النادرة لسنوات طويلة، كما أجبر ترامب أوروبا على سداد قيمة أي مساعدات عسكرية أمريكية لأوكرانيا في المستقبل. ونعلم أن ترامب أجبر حلف الناتو على رفع ميزانية الدول الأعضاء لتصل إلى 3% أولاً على أن تصل لاحقاً إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يخفف من الإنفاق الدفاعي الأمريكي الذي يقترب من تريليون دولار سنوياً.

وبهذه الصيغة فإن الولايات المتحدة ضمنت تحقيق العديد من الأهداف الاستراتيجية وهي إضعاف أوروبا حتى لا تستقل بعيداً عن حمايتها العسكرية ضد روسيا لأنها ستسدد المقابل نقداً، إضافة إلى أن هذا الإنفاق الدفاعي سيؤثر على الاقتصاد الأوروبي بصفة عامة، ما يجعله تابعاً بصورة دائمة للولايات المتحدة. الهدف الجوهري أيضاً أن يتم استنزاف روسيا وهي القوة العسكرية الأضخم عالمياً المناوئة للولايات المتحدة، وقد تحقق هذا الهدف جزئياً بالخسائر الروسية الكبيرة في ميادين المعركة.

ترامب وعد الأمريكيين والعالم في حملته الانتخابية بأنه سيوقف هذه الحرب وكل حروب العالم ظناً أنه ولمجرد أن يتهاتف مع فلاديمير بوتين، أو يجلس مع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلنسكي، ستتوقف الحرب، ولأن ذلك لم يحدث فقد أصيب ترامب بالإحباط. والمفترض والطبيعي أن يدرك ترامب أن مثل هذا النوع من الصراعات شديد التعقيد له جذور قوية في تاريخ هذه المنطقة، وبالتالي فإن حله ليس بالأمر اليسير، بل يحتاج إلى معالجة جذور هذه الأزمة واقتراح حلول واقعية.. ومن أجل كل ذلك فهو ليس مجرد "شجار بين أطفال"، بل هو حلقة في تاريخ صراعات القوى الكبرى من أجل النفوذ والهيمنة والمصالح العليا لكل طرف.

(البيان الإماراتية)

يتم التصفح الآن