صحافة

أوروبا وسوريا في استراتيجية ترامب

عبد الباسط سيدا

المشاركة
أوروبا وسوريا في استراتيجية ترامب

تتسع دائرة التباينات الأمريكية الأوروبية بصورة متواصلة منذ بدايات إدارة الرئيس ترامب الأولى حتى يومنا هذا؛ وهي التباينات المرشحة، في ضوء السياسات والممارسات التي تعتمدها هذه الإدارة منذ عودتها إلى الحكم قبل نحو عام، للمزيد من التصعيد والتجذر، إذا ما استمرت المواقف والمقاربات التي يعلنها كل طرف على حالها. فتركيز ترامب خلال رئاسته الأولى على المصالح الأمريكية، حتى ولو كانت على حساب الحلفاء التقليديين الأوروبيين؛ وتلميحاته ودعواته المستمرة إلى ضرورة إسهام الأوروبيين بالمزيد في نفقات ضمان أمنهم، بل والتلويح بإمكانية تنصّل حلف الأطلسي من التزاماته في تعرض أي من الحلفاء الغربيين لأي خطر، وحتى طرح السؤال الخاص بجدوى الحلف.

وقد تجلّت تلك التباينات في صورة أساسية من خلال فرض الضرائب الجمركية المرتفعة على الصادرات الأوروبية إلى الولايات المتحدة؛ وتشجيع بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي. هذا إلى جانب مغازلة التيارات القومية والعنصرية المتشددة في أوروبا التي كان من الواضح أنها تستمد دفعة حيوية معنوية قوية من سياسات ترامب تجاه المهاجرين إلى الولايات المتحدة، وتشدّده في ميدان منح التأشيرات لمواطني عدد من الدول الآسيوية والأفريقية. كما أن التوجه الشعبوي الذي تبنّاه ترامب في مرحلته الأولى والثانية، وهو التوجه الذي يعد من أبرز عيوب النظام الديمقراطي، قد بات حجر الزاوية في سياسات وممارسات قوى اليمين المتطرف في أوروبا الغربية.

ورغم محاولات إدارة بايدن الديمقراطية استعادة ركائز جسور الثقة مع الأوروبيين، خاصة بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، ومساعيها من أجل إنعاش الحلف الأطلسي وتقويته عبر تحسين العلاقات بين أعضائه، وتوسيعه ليشمل أهم دولتين في الشمال الأوروبي: فنلندا والسويد. هذا إلى جانب إعلان الإدارة المعنية عن خطط بشأن دعم الأنظمة الديمقراطية وتحصينها، حتى تكون قادرة على مواجهة المخاطر في أجواء تنامي النزعات المهددة لها في الداخل والخارج. إلا أن تلك المحاولات والمساعي لم تحقق أهدافها المرجوة نتيجة تراكمات سلبيات مرحلة أوباما بفعل تساهله مع جهود النظام الإيراني التخريبية في منطقة الشرق الأوسط، وسياسات غض النظر تجاه النشاطات الروسية التوسعية في عدد من الأماكن من بينها سوريا وأوكرانيا.

ومع وصول ترامب إلى البيت الأبيض للمرة الثانية، بدأت تظهر في الأفق ملامح أزمة ثقة غير مسبوقة بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية الغربية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. فإلى جانب عودته إلى سياسة رفع الرسوم الجمركية على السلع الأوروبية، ومحاولات إلزام الأوروبيين بإعطاء المزيد من المجال للشركات الأمريكية في الأسواق الأوروبية، لا سيما في ميادين الذكاء الاصطناعي وأجهزة الاتصالات والصناعات الدوائية وغيرها، حدث تغيّر واضح في السياسة الأمريكية تجاه روسيا وحربها على أوكرانيا. وذلك في اتجاه الضغط على الرئيس الأوكراني زيلينسكي، وتجاهل القيادات الأوروبية، بل وتعمّد إظهار الفوقية معها حتى من ناحية قواعد الاستقبال والجلوس في الاجتماعات، ولغة الجسد.

وفي موازاة ذلك ارتفعت درجة الدفء والود في العلاقات مع الجانب الروسي، ومع الرئيس بوتين تحديداً؛ ويُشار هنا بصورة خاصة إلى الحميمية التي سادت مناخات لقاء القمة بين الرئيسين ترامب وبوتين في ألاسكا. ومن ثم جاءت خطة ترامب الخاصة بإيقاف الحرب في أوكرانيا، وهي الخطة المكونة من 28 نقطة، وجد فيها الاتحاد الأوروبي تعبيراً حرفياً عن قائمة تطلعات بوتين. والجدير بالذكر هنا، هو أن تلك الخطة التي تخصّ أوكرانيا في المقام الأول والاتحاد الأوروبي، تم وضعها من دون أي تشاور مع الجانبين.

ولكن التعبير الأوضح، والأكثر تفصيلاً بخصوص التحوّل الاستراتيجي الذي هو في طريقه إلى التطبيق في ميدان العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، هو ما تجسّد في استراتيجية الأمن القومي الجديدة التي أصدرها البيت الأبيض في 5-12-2025. فما ورد في هذه الاستراتيجية التي تصدرها عادة كل إدارة جديدة، يلقي الضوء على طبيعة ومسوّغات التصريحات والممارسات الأمريكية الخاصة بالأوروبيين. فالقادة الأوروبيون بموجب هذه الاستراتيجية ضعفاء، أفسدوا مجتمعاتهم باستقبال الأعداد الكبيرة من المهاجرين الذين تسبّبوا في ارتفاع وتيرة الجرائم؛ بل هم يمثلون، ومرة أخرى وفق ما ورد في نص الاستراتيجية المعنية، خطراً يهدّد بتغيير هوية تلك المجتمعات، بل ويمهد لانقراضها الحضاري.

والأمر اللافت الذي يستوقف، هو أن النص المشار إليه ينتقد من جهة الحكومات الأوروبية ويتهمها بقمع الحريات الديمقراطية، وعدم إتاحة الفرصة الكافية أمام المعارضة للتعبير عن آرائها بخصوص المسائل المختلفة؛ ولكن النص عينه، يشيد بالحركات القومية المتطرفة المتنامية في العديد من الدول الأوروبية؛ وهي الحركات التي لا تتبنى المحور الأساس الذي تتمفصل حوله القيم الديمقراطية، والمعني بذلك الإقرار بالمساواة بين البشر. ويعتبر النص المشار إليه تصاعد نشاط هذه الحركات من دواعي التفاؤل بإمكانية انقاذ أوروبا مما ينتظرها من مخاطر على صعيد القوة الاقتصادية، والبنية السكانية، والدور الفاعل على مستوى السياسة العالمية.

وبالانسجام التام مع هذا التوجه، تشيد الاستراتيجية الأمنية الأمريكية الجديدة بالرئيس المجري أوربان المعروف بتوجهاته غير الديمقراطية، وبحميمية علاقاته مع الرئيس الروسي بوتين. كما تنص الاستراتيجية نفسها على أهمية إيقاف الحرب في أوكرانيا واستعادة الاستقرار في أوراسيا، وهو المصطلح المفضل لدى الرئيس بوتين، ويُعتبر بمثابة الركن في تطلعه الاستراتيجي نحو استعادة موقع القطب المؤثر في السياسة الدولية. والأمر الذي يستوقف هو أن الصين لم تعد، طبق ما هو وارد في استراتيجية إدارة ترامب، تمثل خطراً وجوديا بالنسبة إلى الولايات المتحدة؛ وانما هي مجرد منافس قوي لا بد من الاستعداد للتحديات التي تترتب على نشاطاته. وبناء على ذلك يكلّف ترامب كلا من اليابان وكوريا الجنوبية بمهام الحدّ من تطلعات الصين التوسعية في جوارها الإقليمي.

من جهة أخرى، تؤكد الاستراتيجية الأمنية الأمريكية الجديدة عدم وجود رغبة لدى إدارة ترامب في أداء دور الشرطي على المستوى الدولي؛ كما أنها تبين عدم توفر نية لديها للتدخل في قضايا شكل الحكم وطبيعة النظام المعتمد الخاص بدول منطقتنا، ما دامت التوافقات على مشاريع الاستثمار والقضايا الأمنية على ما يُرام. وتبرز الاستراتيجية الأمريكية الأمنية الجديدة موضوع تراجع موقع الشرق الأوسط ضمن قائمة الأولويات الأمريكية، وذلك لأسباب مختلفة في مقدمتها، تراجع أهمية نفطها بالنسبة إلى الولايات المتحدة، إلى جانب تراجع التحديات الأمنية بعد الضربات الموجعة التي تلقاها المحور الإيراني، والتفاؤل بالدور الذي يمكن أن تؤديه سوريا بعد سقوط سلطة آل الأسد ومجيء الإدارة الجديدة.

فالأمور يمكن، وفق استراتيجية ترامب، أن تستقر في سوريا عبر التعاون الأمريكي العربي التركي والإسرائيلي؛ هذا مع إعطاء أولوية خاصة لأمن إسرائيل الذي يظل على مستوى المنطقة فوق أي اعتبار بالنسبة إلى الولايات المتحدة. هل سيكون في استطاعة دول الاتحاد الأوروبي اتخاذ موقف موحّد، متماسك قوي، يُلزم الحليف الأمريكي بإعادة النظر في استراتيجيته الأمنية المعلنة؟ أم أن هذه الدول ستحاول، بناء على ظروفها الحالية، التكيّف الاضطراري مع الوضع غير السوي، وتسعى قدر الإمكان من أجل كسب الوقت في انتظار الإدارة الأمريكية الجديدة، خاصة بعد النجاحات الملحوظة التي حققها الديمقراطيون في انتخابات رئاسة بلديات عدد من المدن الأمريكية الكبرى المحورية من بينها نيويورك وميامي؟

ولكن الأهم بالنسبة لنا على المستوى السوري هو معرفة قدراتنا وخياراتنا الممكنة في سياق التعامل مع هذه الاستراتيجية. هل سنكتفي بالاستقواء بما ورد فيها؟ أم أننا سنستعد ونحسب الحساب ليوم تبدل الأولويات والمصالح، واعتماد استراتيجيات جديدة من جانب هذه الإدارة الأمريكية نفسها أو الإدارة المقبلة؟

تجارب كثيرة في منطقتنا ومناطق أخرى في العالم علمتنا أن القوى العظمى، خاصة الولايات المتحدة، تضع استراتيجياتها وفق حساباتها ومصالحها؛ وهي لا تشعر بأي حرج حينما تغير أولوياتها وتوجهاتها حتى ولو بزاوية 180 درجة، فهي لا تخجل من أصحاب الإمكانيات المحدودة ولا تخشى منهم. لذلك سيكون الحل الأضمن بالنسبة لنا هو أن يكون استقواؤنا الأساسي بشعبنا بكل انتماءاته وتوجهاته، وهذا ما يتحقق من خلال الحوارات المعمقة، والتوافقات الأكيدة، والإجراءات الملموسة المُقْنِعة المُطَمْئنة. أما أن نعتقد أن السياسات الدولية، خاصة الأمريكية هي مبدئية ثابتة مستدامة، أو نتظاهر بالاعتقاد، فهذا فحواه أننا لم نتعظ من تجاربنا وتجارب غيرنا، والحكمة تقول في هذا السياق: لو دامت لغيرك ما وصلت إليك.

(القدس العربي)
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن