تقدير موقف

ترامب في "تيانجين"... وغيرها!

يُخطئ من لا يرى ظلال ترامب، وعنجهيّته في خلفيّة الصورة. هذه هي القمّة الخامسة والعشرون لـ"منظمة شنغهاي"، ولكنّها لم تكن أبدًا بهذه القوة، ولا بهذا المستوى من الحضور، والاهتمام، الذي واكب تلك الأخيرة التي التأمت قبل أيام في "تيانجين" الصينية. وكما كان العرض العسكري المهيب الذي لم يكن تنظيمه على هامشها محض مصادفة، حرص معظم الحاضرين - إنْ لم يكن كلّهم ـ على أن يرسلوا رسائلهم الخاصّة إلى واشنطن. بدايةً من رئيس الوزراء الهندي الذي لم يُخْفِ تذمّره من الحرب التجارية الأميركية "المفاجئة"، وليس نهايةً بالثعلب الروسي، الذي، وإنْ كان كظم غيظه يوم تطاول عليه ترامب لفظيًّا، لكنّه، ككل من تربّوا في الـ"KGB" يعرف كيف يكون ردّه باردًا وموجعًا، بالضبط كما يعرف كيف يستغل نرجسيّة الرئيس الأميركي، وشغفه "النوبلي" فيفرش له الأخير السجّادة الحمراء الدافئة على ثلوج ألاسكا، ثم يعود إلى بيته الأبيض خالي الوفاض.

ترامب في

كما لا أحد يعرف إلى أين يأخذ بنيامين نتنياهو النظام الدولي، بأطماعه التوسّعية، وبانتهاكه الفجّ لكلّ قواعد القانون الدولي التي كان العالم قد استقر عليها بعد الحرب العالمية الثانية، وبوحشيّته غير المسبوقة، التي ألّبت شعوبًا في الغرب على حكومات اعتادت غضّ الطرف عن سياسات "الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط". هكذا فعل دونالد ترامب بعنجهيّته، ونرجسيّته، وفوضويّته، وحربه التجاريّة التي لم يسلم من قراراتها الخرقاء كلّ حلفاء أميركا التقليديين في الغرب و(الشرق).

ما حدث في أوروبا/الأطلسي التي تحاول أن تقف في مكانها بعد أن غدر بها، أو كاد الأخ الأكبر الجالس في البيت الأبيض، حدث في آسيا، وإنْ اختلفت التفاصيل. وبدا أنّنا، وحدَنا (العرب) لا نريد أن نرى ترامب على حقيقته، أو ربّما لا يقوى حكّامنا على ذلك.

لوّحت مجموعة شنغهاي بما لديها في حين تقاعست الدول العربية عن التلويح بأي شيء

كان ترامب حاضرًا في تيانجين، وإنْ لم يأتِ على ذكره أحد. كما كان (أيضًا) حاضرًا ليس فقط في جولته الخليجية، في مايو/أيار الماضي التي عاد منها متباهيًا بالمليارات، بل (أيضًا) في بيان قمّة القاهرة، في مارس/آذار والذي يُفترض أنه جاء ردًّا على خطة السمسار الأميركي الاستعمارية/الاستثمارية بشأن غزّة فكان، وبدلًا من انتقاد الخطة - أو حتى الإشارة إليها ـ أن نوّه الموقّعون على البيان إلى "الدور الإيجابي الذي اضطلعت به إدارة الرئيس الأميركي ترامب في التوصل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار في غزّة وإطلاق سراح المحتجزين" هكذا قالوا يومها نصًّا (!).

في عالمٍ "ترامبيّ"، بات يحكمه منطق القوة؛ عسكريةً كانت أو اقتصادية، لوّحت مجموعة شنغهاي بما لديها من هذا وذاك، في حين تقاعست الدول العربية (وبعضها يملك أوراقًا) عن التلويح بأي شيء.

لم تنجح أربع قمم عربية وإسلامية كان عنوانها غزّة/فلسطين في أن تُحدث فارقًا يُذكر على الأرض، أو أن يكترث لها أحد، بعد أن غاب عنها التلويح (مجرّد التلويح) بأي إجراءٍ يُذكر، على الأقل ديبلوماسيًا مع "الكيان" الذي تنافسنا، بلا خجل، على التطبيع (بلا ثمن) معه، مكتفين بالتنديد "اللفظي" المعتاد بجرائمه، غافلين، أو مُتغافلين عن خططه "التوسّعية" المُعلنة، وغير مُكترثين، بالقدر الواجب، بحديث رئيس حكومته الصريح عن "إسرائيل الكبرى"؛ إنْ لم يكن بتوسعٍ جغرافيّ لا نعرف له حدودًا، (ويقول ترامب إن "الإسرائيليين بحاجة إليه")، فبهيمنةٍ متغطرسةٍ على الإقليم بأكمله.

نراهن أكثر ممّا ينبغي على ما لا نضمن معطياته فضلًا عن نتائجه

كان ترامب حاضرًا بغطرسته، حين سكت العرب عن مواقفه العقابية حيال محكمتَي العدل، والجنائيّة الدوليتَيْن. يكفي أن لا دولة عربية واحدة (عدا ليبيا) طلبت رسميًا الانضمام إلى دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية (ICJ) ضدّ إسرائيل، بل اكتفى بعضهم، إعلاميًا بإعلان نيّته.

كان ترامب حاضرًا "بعينه الحمراء" حين سكتت الدول العربية عن موقف إدارته من منع محمود عباس وممثلي السلطة الفلسطينية من حضور الجمعية العامة في نيويورك هذا الشهر، فلم يطلبوا مثلًا (مثلما فعلوا في واقعة عرفات المماثلة عام 1988) نقل الاجتماع إلى جنيف.

أيًّا ما كانت تفاصيل الوهن العربي، الذي نعرف أسبابه، وعلى الرَّغم من مقارنةٍ واجبةٍ بين ما فعله الآسيويون أمام عنجهيّة الرئيس الأميركي، وما فعله العرب ردًّا على مواقفه "المعلنة" من قضاياهم، وحقوقهم، بل ومن هويتهم، إلّا أنّ متابعتي لاحتفاءٍ إعلاميّ عربيّ بقمّة شنغهاي، واستعراضها العسكري، واستدعاء البعض لنوستالجيا ستينيّات القرن الماضي، يجعلني أخشى أنّنا بمنطق "الغريق الذي يتعلّق بقشّة" فرحنا، أو نراهن أكثر ممّا ينبغي ليس فقط على ما لا ناقة لنا فيه ولا جمل، بل وعلى ما لا نضمن معطياته، فضلًا عن نتائجه.

"العملاق الآسيوي" سيضع أقدامه في المكان الذي يستحقّ على خريطة عالمٍ جديدٍ يتشكّل

فعلى الرَّغم من رمزيّة "تيانجين"، كحلقة وصل بين "الحزام والطريق"، وعلى الرَّغم من أن الاجتماع، برمزيّته الواضحة، جاء في لحظة اضطرابٍ مفصليةٍ في النظام الدولي، ومع عدم تجاهل الرسالة الجيوسياسية، التي تمثّلت في التأكيد (عالي الصوت) على رفض الهيمنة الغربية، والدعوة إلى نظام عالمي متعدّد الأقطاب. فعلى الرَّغم من ذلك كلّه، إلّا أنّ ما مِن مراقِب، درس التاريخ القريب يمكنه أن يقول باطمئنان (كامل)، أو بكلّ ما قد توحي به العروض العسكرية المهيبة من ثقة أنّ "العملاق الآسيوي"، بحقائق الديموغرافيا والموارد الطبيعية، سيضع أقدامه (حتمًا) في المكان الذي يستحقّ، على خريطة عالمٍ جديدٍ يتشكّل.

فكما أنّ دونالد ترامب كان في خلفيّة المشهد مُحَرِّضًا بحماقته على ما رأيناه من صور، هناك في خلفيّة المشهد المهيب أيضًا متلازمة الاستبداد والفساد التي تأكل، على مهلٍ، أساسات مثل هذه الأنظمة، على الرَّغم من نياشين (الزعماء) ومهابة (الصور). كما لا يمكن تجاهُل حقيقة أنّه بعد ربع قرن من قمّتهم الأولى التي اتفقوا فيها على "محاربة الإرهاب"، ومعارضة التدخّل في الشؤون الداخلية للدول "بحجّة الإنسانية وحماية حقوق الإنسان" (!)، وعلى الرَّغم من الثقل الديموغرافي، والموارد الطبيعية الهائلة لم تُصبح المجموعة، بمعايير الأرقام المجرّدة ندًّا "مُساويًا" للغرب. فمجموعة السبع "G7" ذات الموارد الطبيعية الأقل نسبيًّا، والتي لا يزيد عدد سكانها عن 9% من سكان العالم، تصل نسبتها في الاقتصاد العالمي إلى ما يقرب من النصف. في حين لا تزيد نسبة مجموعة شنغهاي ذات الموارد الطبيعية الهائلة، والتي يصل عدد سكانها إلى نصف سكان العالم، على 20% إلى 22%.

هؤلاء وهؤلاء ليسوا معنيين فعليًّا بنا إلّا كبئر للنفط أو بما نمثّله من أداة لمناوأة الطرف الآخر

أيًّا كان الأمر، وتفاصيله العسكرية أو الاقتصادية، فلسنا معنيين، واقعيًّا بمعركة الشرق والغرب؛ القديمة/الجديدة تلك، فلدينا معاركنا الخاصّة التي تتجدّد جيلًا بعد آخر. كما أنّ هؤلاء وهؤلاء ليسوا معنيين فعليًّا بنا، إلّا كبئرٍ للنفط، أو بما نمثّله من أداةٍ لمناوأة الطرف الآخر.

"ما حكّ جلدك مثل ظفرك"، هكذا تقول مأثوراتنا "العربية" التي نسينا. فضلًا عن أنّه، وإنْ كان من الصحيح أنّ الذين اجتمعوا قبل أسبوع في تيانجين يُمثلون نصف سكان العالم (عددًا)، كما حرصت وسائل إعلام صينية على أن تُذكّرنا، وارتاح البعض لدينا إلى مثل هكذا حقائق. إلّا أنّ هذا لم يكن أبدًا (وحده) مقياس الأهمية أو القوة، فعالمنا العربي، حيث يعيش 500 مليون نسمة تجمعهم ثقافة واحدة، ولغة واحدة، واهتمامات مشتركة، لم ينجح في أن يكبح جماح إسرائيل (الكيان "المصطنع"؛ بحكم طبيعة الأشياء، والدولة المارقة؛ بتعريف القانون الدولي)، على الرَّغم من أن تعدادها لا يتجاوز الـ10 ملايين (ربعهم تقريبًا من العرب)؛ لماذا؟ لهذا قصة أخرى، ربّما يكون مكانها مقال قادم.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن