تقدير موقف

"المُقاوَمَةُ" كَشِعار... والتَّخْريبُ كَحَصاد!

إِطْلالَةُ أَمينِ عامِ "حِزْبِ اللهِ" المُتَكَرِّرَةُ على الجُمْهورِ اللُّبْنانيِّ والعَرَبيّ، أَصْبَحَتْ مُمِلَّة، مُرَدِّدًا مَقولاتِ الماضي نَفْسَها، وَغَيْرَ مُعْتَرِفٍ بِالتَّحَوُّلاتِ التي تَجْري مِنْ حَوْلِه، هِيَ "عِنادٌ" سِياسِيٌّ وَلَيْسَتْ سِياسَة، فَهُوَ يرفض، كما القِياداتُ حَوْلَهُ رُبَّما، أن يرى ما حَوْلَهُ مِنْ تَغَيُّرات. فَما قالَهُ أَخيرًا عَنْ أَنَّ القِيادِيَّ في الحزب هَيْثَم الطَّبْطَبائِيَّ الذي قُتِلَ في الضّاحِيَةِ الجَنوبِيَّةِ كانَ قَدْ أَمْضى تِسْعَةَ أَعْوامٍ في اليَمَنِ إلى جانِبِ الحوثِيّين، وَشارَكَ قَبْلَها في القِتالِ داخِلَ سُورِيا ضِدَّ مَنْ يُسَمّيهِمُ الحِزْبُ "التَّكْفيرِيّينَ"، اعْتِرافٌ سِياسِيٌّ وأَمْنِيٌّ صَريحٌ يَخْتَصِرُ طَبيعَةَ الدَّوْرِ الحَقيقيِّ الذي يُؤَدّيهِ الحِزْبُ في الإِقْليمِ مُنْذُ سَنَواتٍ طَويلَة، وإِصْرارٌ على تَكْرارِ الخَطِيئَة. فَهُوَ اعْتِرافٌ يُسْقِطُ عَمَلِيًّا الادِّعاءَ بِأَنَّ سِلاحَ الحِزْبِ مُوَجَّهٌ حَصْرِيًّا إلى إِسْرائيل، وَيُثْبِتُ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ شَبَكَةٍ عَسْكَرِيَّةٍ إِقْليمِيَّةٍ تَعْمَلُ وَفْقَ أَوْلَوِيّاتِ المَشْروعِ الإِيرانيّ، لا وَفْقَ مَصالِحِ الدَّوْلَةِ التي يَتَحَرَّكُ داخِلَها. فَـ"حِزْبُ اللهِ" فَقَدَ المُرونَةَ والذَّكاءَ مَعًا، وَتَحَوَّلَ إلى ميليشْيا (ثِيوقْراطِيَّة)، وَهو نَوْعٌ جَديدٌ مِنَ الميليشْيات، أَقَلُّهُ فاقِدَةٍ للاتِّصالِ بِالعالَمِ المُتَغَيِّر.

هَذا الاعْتِرافُ بِتَدَخُّلِ الطَّبْطَبائيّ، نِيابَةً عَنِ "حِزْبِ الله"، في أُمورِ دُوَلٍ أُخْرى، يُعيدُ طَرْحَ السُّؤالِ الجَوْهَريِّ حَوْلَ مَعْنى "المُقاوَمَة" بَعْدَ كُلِّ هَذِهِ السَّنَواتِ مِنَ الحُروبِ المَفْتُوحَة. فَفي حَرْبِ 2006، التي رُوِّجَ لَها بِوَصْفِها "نَصْرًا إِلَهِيًّا"، لَمْ يَتَحَرَّرْ شِبْرٌ واحِدٌ مِنْ فِلَسْطين، وَلَمْ تَسْقُطْ مُعادَلَةُ الاحْتِلال، بَيْنَما دُمِّرَتْ مُدُنُ الجَنوبِ والضّاحِيَةِ، وَدُفِعَ لُبْنانُ كُلُّهُ نَحْوَ أَزْمَةٍ بُنْيَوِيَّةٍ لا يَزالُ يُعاني حَتّى اليَوْم، آثارَها الاقْتِصادِيَّةَ والاجْتِماعِيَّةَ وَحَتّى السِّياسِيَّة.

سُحبت كلمة "المقاومة" من معناها الوطنيّ المرتبط بتحرير الأرض وأُعيد تعريفها بوصفها إيديولوجيا عابرة للحدود

وَفي جَوْلَةِ 2024، تَكَرَّرَ المَشْهَدُ بِصورَةٍ أَكْثَرَ قَسْوَةً: خَسائِرُ بَشَرِيَّةٌ واسِعَة، وَتَهْجير، وَشَلَلٌ اقْتِصادِيّ، وانْكِشافٌ كامِلٌ لِهَشاشَةِ الدَّوْلَة، مِنْ دونِ أَيِّ تَغْييرٍ حَقيقيٍّ في ميزانِ الصِّراعِ مَعَ إِسْرائيل. النَّتيجَةُ النِّهائِيَّةُ في الحَرْبَيْنِ واحِدَة: الدَّوْلَةُ اللُّبْنانِيَّةُ هِيَ الخاسِرُ الْأَكْبَر، فيما القَرارُ العَسْكَرِيُّ ظَلَّ خارِجَ مُؤَسَّساتِها.

لَكِنَّ الْأَخْطَرَ مِنَ الفِعْلِ العَسْكَريِّ نَفْسِهِ، هو ما جَرى على مُسْتَوى الوَعْيِ العامّ، حَيْثُ تَمَّ التَّلاعُبُ بِالمَفاهِيمِ والمُصْطَلَحَاتِ على نَحْوٍ واسِع، لِتَضْليلِ الجُمْهور، وَسُحِبَتْ كَلِمَةُ "المُقاوَمَة" مِنْ مَعْناها الوَطَنيِّ المُرْتَبِطِ بِتَحْريرِ الْأَرْض، وأُعيدَ تَعْرِيفُها بِوَصْفِها إيدْيولوجْيا عابِرَةً لِلْحُدود، تُبَرِّرُ التَّدَخُّلَ في شُؤونِ الدُّوَلِ الْأُخْرى، وَشَرْعَنَةَ السِّلاحِ خارِجَ الدَّوْلَة، وإِعاقَةَ الدُّسْتورِ بِحُجَّةِ "المَعْرَكَةِ الكُبْرَى". هَكَذا تَحَوَّلَ المَفْهومُ مِنْ أَداةِ دِفاعٍ وَطَنِيٍّ إلى غِطاءٍ سِياسيٍّ لِمَشْروعٍ تَوَسُّعيّ، وَصارَ الاعْتِراضُ عَلَيْهِ يُصَوَّرُ خِيانَة، والنَّقْدُ يُقَدَّمُ على أَنَّهُ خِدْمَةٌ لِلْعَدُوّ، في عَمَلِيَّةٍ مَنْهَجِيَّةٍ لِمُصادَرَةِ النِّقاشِ العامِّ مِنْ خِلالِ إِرْهابٍ فِكْرِيّ.

كلّ منطقة دخلها المشروع الإيراني شهدت تدهورًا وانهيارًا وتآكُلًا وهجرة

في سورِيا، شارَكَ "حِزْبُ اللهِ" في حَرْبٍ داخِلِيَّةٍ مُدَمِّرَة، بِدَعْوى مُحارَبَةِ "التَّكْفيرِيّينَ" وَحِمايَةِ "مِحْوَرِ المُقاوَمَةِ"، بَيْنَما الهَدَفُ الفِعْلِيُّ كانَ تَثْبيتَ نِظامٍ قَمْعيّ، أَثْبَتَ خِلالَ أَكْثَرَ مِنْ عَقْدٍ أَنَّهُ مُسْتَعِدٌّ لِتَدْميرِ بَلَدِهِ مِنْ أَجْلِ البَقاءِ في السُّلْطَة. النَّتيجَةُ كانَتْ مَلايينَ القَتْلى والمُشَرَّدين، وَمُدُنًا تاريخِيَّةً سُحِقَتْ، وَدَوْلَةً تَحَوَّلَتْ إلى ساحَةِ نُفوذٍ لِلْقُوى الخارِجِيَّة. وَمَعَ ذَلِكَ، اسْتَمَرَّ تَسْويقُ هَذا التَّدَخُّلِ بِوَصْفِهِ "واجِبًا أَخْلاقِيًّا وَحِمايَةً لِلْمُقَدَّسات"، في واحِدَةٍ مِنْ أَوْضَحِ حالاتِ التَّضْليلِ بِالمُصْطَلَحِ لِتَبْريرِ الكارِثَة.

وَفي اليَمَنِ، كانَ الشِّعارُ هو ذاتُهُ: نُصْرَةُ "المُسْتَضْعَفينَ" وَمُواجَهَةُ "العُدْوان". أَعْوامٌ مِنَ الحَرْبِ أَفْضَتْ إلى بَلَدٍ مُمَزَّقٍ، وَمَجاعَة، وانْهِيارٍ شِبْهِ كامِلٍ لِلدَّوْلَة، وَتَحْويلِ اليَمَنِ إلى وَرَقَةِ مُساوَمَةٍ في الصِّراعِ الإِقْلِيمِيّ. لَمْ تُبْنَ دَوْلَة، وَلَمْ تَتَحَقَّقْ سِيادَة، بَلْ تَوَسَّعَتْ دائِرَةُ الفَقْرِ والمَرَض، فيما بَقِيَ السِّلاحُ فَوْقَ السِّياسَة، وَبَقِيَ اليَمَنِيّونَ يَدْفَعونَ ثَمَنَ صِراعٍ لا يَمْلِكونَ قَرارَه.

دول عربية دُفعت إلى حافة الانهيار وشعوب كاملة اسْتُنزفت باسم تحرير لم يتحقّق

أَمّا في العِراقِ، فَالمَجْموعاتُ الوَلائِيَّةُ نَقَلَتِ النَّموذَجَ نَفْسَه: تَعَدُّدُ مَراكِزِ القُوَّة، إِضْعافُ مُؤَسَّساتِ الدَّوْلَة، وَتَكْريسُ واقِعٍ يُدارُ فيهِ القَرارُ الْأَمْنِيُّ والسِّياسِيُّ مِنْ خارِجِ الإِطارِ الدُّسْتوريّ، تَحْتَ شِعاراتِ "الدِّفاعِ عَنِ المَذْهَبِ" أَوْ "مُواجَهَةِ الهَيْمَنَةِ الْأَميرْكِيَّة"، بَيْنَما النَّتيجَةُ الفِعْلِيَّةُ هِيَ دَوْلَةٌ هَشَّة، واقْتِصادٌ مُثْقَل، وَطَبَقَةٌ سِياسِيَّةٌ عاجِزَةٌ عَنْ بِناءِ أَيِّ مَشْروعٍ وَطَنيٍّ جامِع.

إِيرانُ لَمْ تَعُدْ تُخْفي هَذا الدَّوْرَ التَّدَخُّلِيّ، بَلْ تُعْلِنُ دَعْمَها الصَّريحَ لِـ"حِزْبِ اللهِ" والحوثِيّينَ والمَجْموعاتِ الوَلائِيَّةِ في العِراق، وَتُفاخِرُ بِنُفوذِها المُمْتَدِّ عَبْرَ أَرْبَعِ عَواصِمَ عَرَبِيَّة. غَيْرَ أَنَّ السُّؤالَ المُلِحَّ يَبْقى: ماذا رَبِحَتْ هَذِهِ العَواصِمُ مِنْ هَذا النُّفوذ؟ هَلْ تَحَسَّنَتْ أَوْضاعُ شُعوبِها؟ هَلِ اسْتَقَرَّ اقْتِصادُها؟ هَلْ تَعَزَّزَتْ سِيادَتُها؟ الواقِعُ يُقَدِّمُ إِجابَةً واحِدَة: كُلُّ مِنْطَقَةٍ دَخَلَها هَذا المَشْروعُ شَهِدَتْ تَدَهْوُرًا اقْتِصادِيًّا واسِعًا، وانْهِيارًا في العُمْلَة، وَتَآكُلًا في الطَّبَقَةِ الوُسْطى، وَهِجْرَةً لِلْكَفاءات، وَتَراجُعًا حادًّا في الخَدَماتِ الأَساسِيَّة!.

يُرْفَعُ شِعارُ "حَرْبِ إِسْرائيلَ" لِتَبْريرِ كُلِّ هَذا الخَراب، بَيْنَما الحَقيقَةُ أَنَّ إِسْرائيلَ لَمْ تُهْزَمْ اسْتْراتيجِيًّا، وَلَمْ تُفْرَضْ عَلَيْها مُعادَلَةُ رَدْعٍ تَمْنَعُها مِنَ الضَّرْبِ مَتَى شاءَت، وَلَمْ تُحَرَّرْ فِلَسْطين. الذي تَغَيَّرَ فِعْلِيًّا هو أَنَّ دُوَلًا عَرَبِيَّةً بِأَكْمَلِها دُفِعَتْ إلى حَافَّةِ الانْهِيارِ، وأَنَّ شُعوبًا كامِلَةً اسْتُنْزِفَتْ بِاسْمِ مَعْرَكَةٍ لَمْ تُحْسَمْ، وَبِاسْمِ تَحْريرٍ لَمْ يَتَحَقَّق. المُفارَقَةُ أَنَّ مَنْ قُدِّمَتْ لَهُمْ هَذِهِ الحُروبُ كَطَريقٍ إلى الكَرامَة، وَجَدوا أَنْفُسَهُمْ في نِهايَةِ المَطافِ أَسْرى الفَقْرِ والعُزْلَةِ والدَّم.

نحن أمام مشروع إقليميّ يستخدم شعارات "المقاومة" كواجهة فيما يُمارس على الأرض تفكيك الدول

أَخْطَرُ ما في هَذِهِ التَّجْرِبَة، لَيْسَ فَقَطْ نَتائِجَها العَسْكَرِيَّةَ أَوِ الاقْتِصادِيَّة، بَلْ قُدْرَتُها العالِيَةُ على إِنْتاجِ الوَهْمِ عَبْرَ التَّلاعُبِ بِاللُّغَةِ نَفْسِها، وَتَحْويلِ الهَزيمَةِ إلى "صُمود"، والانْهِيارِ إلى "تَضْحِيَة"، وَتَدْميرِ الدَّوْلَةِ إلى "ثَمَنٍ ضَرورِيّ". بِهَذِهِ اللُّغَةِ، تُدارُ المَعارِكُ وَيُدارُ الوَعْيُ في الوَقْتِ ذاتِه، وَيُعادُ إِنْتاجُ الدائِرَةِ ذاتِها مِنْ دونِ مُساءَلَة.

الاعْتِرافُ الْأَخِيرُ بِوُجودِ قِياداتٍ مِنْ "حِزْبِ اللهِ" في اليَمَنِ وَسورِيا لا يَكْشِفُ جَديدًا بِقَدْرِ ما يُؤَكِّدُ ما كانَ يُنْكَرُ عَلَنًا: نَحْنُ أَمامَ مَشْروعٍ إِقْلِيميٍّ يَسْتَخْدِمُ شِعاراتِ "المُقاوَمَةِ" كَواجِهَة، فيما يُمارِسُ على الْأَرْضِ تَفْكيكَ الدُّوَلِ وإِدامَةَ الصِّراعات. فِلَسْطينُ تُسْتَحْضَرُ بِوَصْفِها رَمْزًا دائِمًا، لَكِنَّها غائِبَةٌ فِعْلِيًّا عَنْ حَصادِ هَذِهِ الحُروب.

رُبَّما آنَ الْأَوانُ لِطَرْحِ السُّؤالِ بِصَراحَةٍ كامِلَة: أَيُّ مُقاوَمَةٍ هَذِهِ التي لا تَتْرُكُ خَلْفَها سِوى دُوَلٍ مُدَمَّرَة، واقْتِصاداتٍ مُنْهارَة، وَمُجْتَمَعاتٍ مُنْهَكَة؟ وأَيُّ انْتِصارٍ هَذا الذي يُقاسُ بِعَدَدِ العَواصِمِ العَرَبِيَّةِ التي خَرَجَتْ مِنْ دائِرَةِ الدَّوْلَة؟ إِنَّ أَخْطَرَ ما في هَذا المَسارِ، لَيْسَ الخَسارَةَ وَحْدَها، بَلِ الْإِصْرارُ على بَيْعِ الخَسارَةِ بِوَصْفِها نَصْرًا، والخَرابِ بِوَصْفِهِ قَدَرًا لا بُدَّ مِنْه!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن