وجهات نظر

أفريقيا.. بين الانقلاب والاعتدال

يبدو أنّ لعنة الانقلابات عادت مرّة أخرى لتضرب بعنف قلب الأمل؛ أن تعتدل أفريقيا وتستوي على الخط الواصل للنهوض والتقدّم ومن ثمّ تتمكّن من قطع المشوار الطويل نحو الخلاص من كل أسباب تأخّر بلدانها تحت وطأة أسوأ الممارسات الاستعمارية التي شهدتها القارة السمراء على مدى زمن طال وترك خلفه خرابًا ودمارًا شديدين لم يوفّرا شيئًا من مؤهلات السير الآمن نحو تحقيق هدف ترميم مجتمعاتها وتوفير الإمكانات اللازمة للنهوض الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ومن ثم العودة للإسهام من جديد في مسيرة الحضارة الإنسانية بعد انقطاع.

أفريقيا.. بين الانقلاب والاعتدال

الموجة الحالية من الانقلابات بدأت تأخذ شكلها المخيف الذي تعوّدنا عليه، للأسف، على مدى عقود طويلة منذ توالي حركة الاستقلالات في بلدان أفريقيا في نهاية خمسينات القرن الماضي وطوال سنوات ستينيات القرن العشرين (بلغ عددها أكثر من مائة انقلاب).. هذه الموجة الجديدة من تلك اللعنة مع مطلع عشرينات القرن الحالي، إذ بلغ عددها في ثلاث سنين تسعة انقلابات في ست دول أفريقية، إثنان منها شهدا أكثر من انقلاب واحد، أما آخر وأحدث هذه السلسلة المروّعة فقد شهدها بَلَدان اثنان في أقلّ من شهر، أولهما حدث في النيجر وسرعان ما لحقه انقلاب ثانٍ في الجابون.

طبعًا غنيّ عن البيان أنّ الخراب الشامل الذي أحدثه الاستعمار في مختلف مجتمعات بلدان أفريقيا هو على رأس قائمة أسباب تفشّي ظاهرة السطو المسلح على السلطة.

النفوذ الضخم لباريس في النيجر والجابون يُسقط مصداقية شعارات الديمقراطية التي يرفعها الغرب

ورغم التحفّظ على فكرة ردّ كل السلبيات التي تعاني منها المجتمعات التي سقطت في براثن الاستعمار إلى هذا العامل الخطير وحده، إلا أنّ الحقيقة الناصعة تنطق بأنّ الاستعمار (بصياغاته الحديثة) ما زال يُشكّل العامل الأقوى بين كل العوامل التي تسوغ وتغذي ظاهرة الانقلابات الأفريقية، وهو يجسّد النموذج المثالي لما استخلصه المفكّر الاقتصادي الأمريكي التقدّمي البارز "بول باران" في بحثه عن أسباب التأخّر في كتابه القَيّم "الاقتصاد السياسي والنموّ"، إذ قال إنّ "الاستعمار الغربي لكثير من بلدان الدنيا نجح في تدمير البنية الطبيعية (البدائية) لاقتصادات المستعمرات من دون أن يسمح بتوفير شروط بناء اقتصاد حديث وذلك لكي تبقى هذه المستعمرات سوقًا لمنتوجاته من السلع المصنّعة وموردًا دائمًا ورخيصًا للمواد الخام".

هذا الاستخلاص واضح جدًا على الصعيد الاقتصادي في المجتمعات التي ابتُليت بالاستعمار، لكنه ينطبق بالوضوح نفسه أيضًا على سائر البنى الخربة في هذه المجتمعات، خصوصًا على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، وهو أمر يمكن التقاطه بيسر في وقائع الانقلابين الأخيرين (النيجر والجابون)، فرغم الاستقلال القانوني الذي يتمتّع به هذان البلدان إلا أنّ التواجد العسكري فيهما للمستعمر القديم (فرنسا) ما زال موجودًا، فضلًا عن النفوذ الاقتصادي والسياسي الضخم لباريس في كل من البلدين مما يُسقط أية مصداقية لشعارات الديمقراطية التي يرفعها الغرب عمومًا كعنوان لسياساته في بلدان مستعمراته القديمة.

أغلب بلدان أفريقيا تنتظر أن تتعافى من آثار الخراب الاستعماري

ويكفي أن نشير هنا إلى أنّ فرنسا كانت تتمتّع بأفضل وأقوى العلاقات مع نظام عائلة بونجو التي حكمت الجابون لمدة 55 عامًا متصلة متوسّلة بخليط مروع من العنف والفساد والطغيان، فقد بدأت رحلتها الطويلة في حكم البلاد من الرئيس الأب عمر بونجو ثم استمرّت تحكم بابنه علي بونجو حتى خلعه الشهر الماضي جنرال ينتمي للعائلة نفسها، بعد ساعات من إعلان فوز الرئيس الابن بانتخابات فاضحة التزوير.

الخلاصة، أنّ أغلب بلدان أفريقيا تنتظر الآن أن تنكسر حلقة الخراب الشامل التي تكابدها وتدور فيها من سنين بعيدة، ومن ثم تتعافى من آثار الخراب الاستعماري، وأن لا تقع مرة أخرى في فخّ هيمنة قوى عالمية بازغة تتنافس وتتصارع حاليًا فوق جثتها، عندئذ فقط ستتمكن من بدء السير على الطريق الطويل المفضي إلى ديموقراطية حقيقية، وأن تأخذ فرصة أن تنهض وتتطوّر اقتصاديًا واجتماعيًا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن