دار جدل واسع حول دلالة هذه التصريحات والهدف منها، وطُرِحَت في هذا السياق فكرة أن يكون مقصد الرئيس الأميركي منها هو الضغط غير المباشر على نتنياهو لتجاهله التام رغبة ترامب في إنهاء الحرب، وأشارك في هذا الجدل بالملاحظتَيْن التاليتَيْن:
الملاحظة الأولى أنّ هذه التصريحات تحمل من دون شك تقييمًا سلبيًا لأداء إسرائيل في الحرب، أو على الأقل لتداعيات هذا الأداء عليها، وأهمّها أنّ اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة خسر سيطرته الكاملة على الكونغرس الأميركي، ولا أدّعي أنّ لديّ من المعطيات ما يجعلني أُوافق على هذا التقييم، أي على فقدان اللوبي الإسرائيلي سيطرته على الكونغرس. اللّهم إلّا إذا كان المعنى الدقيق لهذا الحكم أنّ ثمّة تراجعًا لقبضة اللوبي الإسرائيلي على الكونغرس، فمن المؤكّد أنّ هناك تزايدًا في الأصوات المُعارضة للسياسة الإسرائيلية لا ينسحب على الجناح اليساري في الحزب الديموقراطي فقط، وإنّما يمتد لأعضاء جمهوريين. غير أنّه لا توجد في تقديري حتى الآن إحصاءات دقيقة تُبيّن مدى التراجع في تأييد السياسة الإسرائيلية بين أعضاء الكونغرس من الحزبَيْن، وإن كان مجرّد إشارة الرئيس الأميركي، بالغ التحيّز لإسرائيل، لهذه الظاهرة مُهمّ للغاية.
ثبت أنّ تصريحات ترامب قد تكون عشوائية أو قد يكون الهدف منها الخداع التكتيكي
أمّا الملاحظة الثانية فتتعلق بالهدف الذي يرمي إليه ترامب من وراء هذه التصريحات، وهل يكون الضغط على نتنياهو الذي يرفض بسياساته الحمقاء الاستجابة لرغبة ترامب في وقف الحرب؟ وفي محاولة الإجابة على هذا السؤال، ألاحظ أولًا أنّه يمكن لأي باحثٍ موضوعيّ يُتابع تصريحات ترامب وقراراته ألّا يشغل نفسه أصلًا بها، إمّا لأنّه ثبت أنّها أحيانًا قد تكون عشوائيةً سرعان ما يتمّ الانقلاب عليها أو على الأقل عدم التمسّك بها، كما في مطالباته المتعدّدة بضم كندا أو غرينلاند إلى الولايات المتحدة، أو استعادة قناة بنما أو المرور مجانًا من قناة السويس وهلمّ جرّا، وإمّا لأنّ الهدف من التصريحات قد يكون الخداع التكتيكي، كما في تحذيره نتنياهو من ضرب المنشآت النووية الإيرانية طالما أنّ المفاوضات بشأنها مستمرّة، ثم التباهي بعد ذلك بأنّه كان يعرف نيّة الضربة الإسرائيلية وتوقيتها، بل وبالمشاركة فيها بتولّيه المُهمّة الصعبة الخاصة بضرب مفاعل "فوردو" الذي لم تكن إمكانات إسرائيل تُمكّنها من ضربه.
والأهمّ من ذلك كله أنّه، حتى لو كان ترامب قد ضاق ذرعًا بنتنياهو وسياساته الفاشلة، فقد ثبت بالدليل القاطع أنّه غير قادر على تغييرها أو تحدّيها، فهل ننسى حديثه عن ضرورة إنهاء الحرب في غزّة، وقرب حدوث ذلك خلال أيام، وتوقّع البعض، وربما الكثيرون، أنّ زيارة نتنياهو الأخيرة لواشنطن في يوليو/تموز الماضي كانت استدعاءً لإجباره على إنهاء الحرب، فإذا به يعود لإسرائيل بما يشبه التفويض بفعل ما يشاء على الرَّغم من فشله الذريع وتصاعد المعارضة الدولية، بل وداخل إسرائيل، لسياساته. وهل ننسى إبداعات ويتكوف مبعوث ترامب في اقتراح صفقة تبادل جزئيّة، وثناء ترامب عليها، وجهود الوسطاء العرب في إقناع "حماس" بها، فلمّا نجحوا إذا بنتنياهو يلزم الصمت تمامًا، ويتحوّل إلى المطالبة بصفقة شاملة بشروطه، والأدهى والأمرّ أن يردّد ترامب وراءه هذه الترّهات، ويتبنّى موقفه الذي انقلب على الموقف الأميركي أصلًا.
لا يخرج نموذج ردّ الفعل الأميركي لأي خلاف مع إسرائيل عن الصمت أو الاستدارة المُذِلّة لتبنّي وجهة النظر الإسرائيلية
لقد كتبتُ من قبل على هذه المنصّة الموقّرة مقالةً عن "زوال الوهم" بخصوص الرهان على خلافٍ بين ترامب ونتنياهو، وإمكان الاستفادة منه فلسطينيًا وعربيًا، بعد أن ثبتت بما لا يدع مجالًا لأي شكّ حقيقة التماهي بين السياستَين الإسرائيلية والأميركية، وحتى عندما يحدث خلاف فإنّ عجز الإدارة الأميركية عن فرض وجهة نظرها أصبح من المسلّمات، بحيث لا يخرج نموذج ردّ الفعل الأميركي لأي خلاف عن الصمت أو الاستدارة المُذِلّة لتبنّي وجهة النظر الإسرائيلية. كما حدث عندما تبنّى ترامب، بعد أن أدلى بتصريحاته التي ناقشتها هذه المقالة، وجهة نظر نتنياهو بشأن الاتفاق الشامل النهائي الذي لا ترفضه المقاومة في غزّة وإنّما ترفض شروط نتنياهو له التي تساوي بينه وبين الهزيمة الكاملة للمقاومة التي لم يستطع حتى الآن تحقيقها في ميدان القتال.
(خاص "عروبة 22")