وجهات نظر

زوال الوهم!

مع وراثة الولايات المتحدة لدور بريطانيا في قيادة التحالف الغربي عقب الحرب العالمية الثانية، حلّت محلّها أيضًا كداعمةٍ للحركة الصهيونية بهدف تأسيس دولة يهودية في فلسطين، وفي مقابل "إعلان بلفور" وفتح سلطات الانتداب البريطاني أبواب فلسطين للهجرة اليهودية التي ساعدت على تحقيق نوعٍ من التوازن الديموغرافي بين أصحاب الأرض والمهاجرين، وأسَّست البنية التحتية للدولة الصهيونية، أصبحت الولايات المتحدة الضامن الرئيسي لإسرائيل عسكريًا واقتصاديًا وديبلوماسيًا، سواء لنفوذ اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة أو لأنّ إسرائيل كما وصفها الشهيد عبد المنعم رياض هي حاملة الطائرات الأميركية البرّية في المنطقة.

زوال الوهم!

لم تُقصّر الإدارات الأميركية المُتعاقبة في الوفاء بهذا الدور بامتياز، اللّهم إلّا في حالةٍ واحدةٍ هي إجبار الرئيس الأميركي أيزنهاور إسرائيل على الانسحاب من سيناء وغزّة في 1957. ولقيت كلّ مبادرات السياسة الأميركية التي انطوت على أي درجة من درجات الاختلاف مع إسرائيل المصير نفسه، وهو العودة إلى المربّع صفر أو الذهاب إلى غياهب النسيان.

فتح ترامب في ولايته الأولى آفاقًا غير مسبوقةٍ للانحياز الأميركي لإسرائيل، بالاعتراف بالقدس عاصمةً لها، وبشرعيّة الضمّ الإسرائيلي للجولان وشرعيّة الاستيطان، ولذلك توجّس الكثيرون خيفةً ممّا يمكن أن يفعله لإسرائيل في ولايته الثانية.

لحظة "زوال الوهم" جاءت أسرع مما توقّع الكثيرون فقد تصوّر البعض أن خلاف ترامب ونتنياهو يُـمْكِن أن يُوَظَّف لصالح العرب

وبالفعل، مضت الأمور حسب التوقّعات فأظهر ترامب حالةً من التماهي مع إسرائيل، وتجلّى ذلك خاصةً في أفكاره الخاصة بتهجير أهل غزّة لمصر والأردن. غير أنّه بمرور الوقت بدأ بعض المؤشرات يتراكم بخصوص احتمال وجود خلافٍ بينه وبين نتنياهو، فقد أجرت إدارته اتصالاتٍ مباشرةً مع "حماس" على غير هوى إسرائيل، وظهر خلاف علني بينهما بشأن سياسة نتنياهو في سوريا فيما يتعلّق بتركيا. والأهمّ أنّ ترامب دخل في مفاوضاتٍ مع إيران حول برنامجها النووي مُتجاوزًا التفضيل الإسرائيلي للحلّ العسكري لهذه المشكلة، وبدا أنّ ثمة خلافًا بين رغبته في التوصّل لاتفاق مع إيران وتحفّز نتنياهو لتوجيه ضربةٍ عسكريةٍ لها. وأطلق ترامب تصريحاتٍ علنيةً مفادها بأنه من غير المناسب أن ينفّذ نتنياهو هذه الضربة طالما أنّ المفاوضات مستمرّة.

ولعلّ المؤشر الأهم على التباين بين سياستَي ترامب ونتنياهو كان اتفاق وقف إطلاق النار بين ترامب والحوثيين في 6 مايو/أيار الماضي، وكان أخطر ما فيه أنّه اتفاق "ثنائي" لم يفرض عليهم التوقّف عن ضرب أهدافٍ إسرائيلية. وقد ظنّ البعض أنّ التوقّف سيحدث على الرَّغم من عدم النص عليه لعدم إراقة ماء وجههم، غير أنّهم واصلوا ضرباتهم لإسرائيل. علمًا أنّ ترامب كان هو الذي صنّف الحوثيين كإرهابيين في ولايته الأولى، قبل أن يُلغي بايدن هذا التصنيف، ليُعيده ترامب بعد أيام من بدء ولايته الثانية، قبل أن يوجّه لهم ضربات شديدة ثم يتّفق معهم على وقف إطلاق النار بعد 3 شهور فحسب. وهكذا تراكمت المؤشرات على وجود اختلافٍ أو على الأقلّ تمايزٍ بين سياستَي ترامب ونتنياهو في قضايا بالغة الأهمية لكلَيْهما.

غير أنّ لحظة "زوال الوهم" جاءت أسرع مما توقّع الكثيرون، فقد تصوّر البعض أن هذه قد تكون بدايةً لخلافٍ بين ترامب ونتنياهو يُمْكِن أن يُوَظَّف لصالح العرب والفلسطينيين، وكنتُ أعتقد أنّه قد يكون كذلك، ليس لأي احتمال لتغيّر في الموقف الأميركي من الصراع العربي - الإسرائيلي أو في الشرق الأوسط عمومًا، ولكن لاختلافٍ في أساليب إدارة الصراع بين الولايات المتحدة وإسرائيل، على نحوٍ يُذَكر بخلاف أيزنهاور معها. وسرعان ما تمخّض الخلاف فلم يلد أي شيء، فقد صفع الفيتو الأميركي على مشروع قرار وقف إطلاق النار في غزّة الذي وافق عليه الأعضاء الـ14 المتبقّون في مجلس الأمن، كلّ من تخيّل إمكان حدوث تغيير في الموقف الأميركي من السلوك الإسرائيلي. ثم جاء الموقف الأميركي الضاغط على الدول لعدم حضور المؤتمر الذي كان سيُعقد في الأمم المتحدة عن "حلّ الدولتَيْن" ليُقدّم دليلًا آخر على تراجع الموقف الأميركي من هذا الحل.

الدعم الأميركي الشامل لإسرائيل في الهجوم على إيران ليس موضعًا لأدنى شك

وأخيرًا، حلّت ثالثة الأثافي بـ"مسرحية" الهجوم الإسرائيلي على إيران، فها هو ترامب يكرّر تصريحاته بأنّه لن يكون مناسبًا أن يوجّه نتنياهو ضربةً عسكريةً لإيران أثناء استمرار المباحثات التي تُبَشّر بالتوصل لاتفاق، ثم يتحدّث عن ضربةٍ إسرائيليةٍ وشيكةٍ وكأنّه غير قادر على منعها. ويتحوّل بعد بدء الضربة إلى لائمٍ لإيران لأنها ضيّعت فرصة الاتفاق، ومتقمّصٍ لدور رئيس هيئة عمليات إسرائيل بتحذيره سكان طهران بوجوب إخلائها، وحديثه عن معرفة مكان خامنئي، لكن وقت قتله لم يحن بعد!

أكتبُ هذه السطور بينما احتمالات التدخل الأميركي العسكري المباشِر ضدّ إيران مطروحة على أعلى مستويات صنع القرار الأميركي، علمًا أنّ الدعم الأميركي الشامل لإسرائيل في الهجوم ليس موضعًا لأدنى شك، فهل يمكن القول بوجوب إسدال الستار على أي حديث عن خلاف أميركي - إسرائيلي حقيقي؟.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن