هذا الواقع فرضته بالبداية القوى الإمبريالية وزكّته فيما بعد اللوبيات الرأسمالية، حيث فرض نوعًا من العجز أمام معطى فريد في تاريخ الإنسانية عكسته عملية الاستيطان نفسها، فمن المعروف أنّ التجربة التحرّرية للعرب من السيطرة العثمانية استدعت بشكل ما الاستعانة بالقوى الغربية، إذ كان أهمّ مبادئ هذه الثورة العربية ضدّ الأتراك تحقيق الاستقلال وإنشاء دولة عربية متّحدة، بالطبع كانت أراضي فلسطين جزءًا لا يتجزّأ من هذا الطموح، وهو ما وعدت به الحكومة البريطانية حلفاءها العرب، إلا أنّ الحدث الذي لم تتوقّعه القوى التحرّرية العربية أو تغافلت عنه هو تنكّر الحلفاء، حيث تمّ المصادقة على اتفاقية "سايكس بيكو" ومن ثمّ "وعد بلفور" لتأييد ودعم الوجود اليهودي، هذا الواقع الاستيطاني الذي سيتمكّن بالنهاية من توسيع تواجده بعد حرب الستة أيام.
فلسطين امتحانٌ لقدراتنا على تجديد الخطاب القومي
مهمّ جدًا التذكير هنا بمؤشر مفصلي، وهو دور اللامتوقع في مسار المشروع القومي العربي، حيث جسّدت واقعة الاستيطان دور اللامتوقع في تحديد مسار تاريخ الوحدة العربية، وبما أنّ اللامتوقع يكسر على الدوام النمطية التي نبني بها تاريخ المفهوم، فاللامتوقع هنا شكّلَ صدمة قومية صعب تجاوزها لما أنتجته من آثار بعدية، لأنه رسم نوعًا من القطيعة مع دلالة القومية العربية الما قبل الاستيطاني، فمطلب التحرّر أو الاستقلال لا يلائم حالة فلسطين، وفلسطين جزء من الكُلّ العربي، إنها بحق امتحان لقدراتنا على تجديد الخطاب القومي بمستجدات تلائم واقعة هذا الاستيطان، وكذا مدى قبولنا لهذا التجديد المطلوب، فهل تمكّنا تاريخيًا من تجاوز تجربة الصدمة الناتجة عن الاستيطان؟
نحاول هنا أن نثير التغيّر اللساني الخاص بدلالة القومية العربية، وهو تغيير كان للإشكال الفلسطيني نصيب كبير في رسمِ معالمه، لهذا ظلّت اعتراضاتنا على الاستيطان بلا جدوى، ما دمنا ننطلق من حيثيات التجربة التحرّرية نفسها الخاصة بباقي الدول العربية، وهو الأمر الذي تحوّل فيما بعد إلى المطالبة بالاستقلال بدلَ إزاحة الاستيطان، ثم صار حكمًا ذاتيًا فرض واقع القوة أمام انقسام داخلي أضعف قوة المطالبة بالاستقلال وأوجد بالمقابل غطاءً للإحراج القومي لدى باقي الدول العربية، هذا الغطاء الذي لبسَ مع مرور الوقت تبريرًا للتخلي الضمني ــ غير مُصَرّح به كما هو معلوم ــ عن قضية فلسطين من الأجندات الوطنية وركنها جانبًا.
صحيح أنّ فلسطين تظلّ حاضرة بشكل علني من ناحية المساعدات الإنسانية أو المالية، لكنها لا ترقى إلى مستوى المطلب القومي الذي سُطّر سابقًا، وهو المطلب الذي لا يزال عالقًا بالوجدان العربي، فكيف يمكن تبرير ذلك؟
اعتبار الرفض والشجب آلية فعّالة لتغيير واقع الاستيطان ساهم في توسيعه وتقويته
ــ بالعودة لمساءلة الوعي العربي لواقعة الاستيطان، نجد أنّ الفكر القومي العربي لم يخلق وعيًا يستجيب لمعطى الاستيطان آنذاك، فالقوى الاستعمارية كان يُحرّكها بناء سياسي نفعي أمام واقع عربي ينطلق من تجربة سياسية فتية.
ــ تمّ اعتبار الرفض والشجب آلية فعّالة لتغيير واقع الاستيطان مما ساهم في توسيعه وكذا تقويته، كان هذا بمثابة استعلاء ورفض لمواجهة واقع فُرض وفق منطق القوة السياسية الغربية، مما خلق فجوة بين ما يمثّله الإشكال الفلسطيني في الذهن العربي القومي وواقع هذا الاستيطان التوسّعي على أرض الواقع.
يمكن القول إنّ التعاطي مع الأزمة الفلسطينية قد مرَّ من مرحلتين: مرحلة الصدمة التي لم تستوعب الأمر بشكل واقعي؛ ثم مرحلة الاستسلام لواقع المرحلة الأولى، التي لطالما اعتبر أمر قبولها بمثابة خيانة عظمى للمسار القومي العربي، كأننا أمام فجوة تاريخية صعب ترميمها، فقد تطلّب أمر استيعاب واقعة فلسطين فراغًا زمنيًا في مسار التجربة التاريخية للقومية العربية، وبالنتيجة، صار الإشكال الفلسطيني بعد استكمال الدول العربية تحرّرها من الاستعمار بمثابة إحراج يصعب التعامل معه بما يخدم الحسّ القومي، ففلسطين بحق تسكن القلوب العربية، لكنها بالمقابل تُحرج فعالية العقل العربي في إيجاد مخرج متّفق عليه ويُرضي الكرامة العربية.
(خاص "عروبة 22")