تقدير موقف

"الأصوات العالية": حقائق سورية غائبة!

تنقسم أصوات السوريين العالية اليوم إلى معسكرَيْن، معسكر موالٍ للحكومة السورية في دمشق، ومعسكر معارض للحكومة. للأول نواة قيادة توجّهه، تتقدّمها الحكومة ومن خلفها "هيئة تحرير الشام"، وتحالف التشكيلات المسلّحة لغرفة ردّ العدوان، التي أدارت إسقاط نظام الأسد، وإقامة النظام الحالي مكانه في ديسمبر/كانون الأول 2024. أمّا المعسكر المعارض فلا نواة ولا قيادة أساسيّة له، بل فيه ثلاث مجموعات أكبرها الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا وصلبها قوات "قسد" بقيادة الجنرال مظلوم عبدي، والثانية في معسكر المعارضة تلتفّ خلف شيخ الطائفة الدرزية حكمت الهجري وإلى جانبه الشيخان حمود الحناوي ويوسف الجربوع، والثالثة في معسكر المعارضين هي الأقل وضوحًا وجسدها الرئيسي من العلويين المُنتشرين بين محافظتَيْ طرطوس واللاذقية وبقع سكانية موجودة في محافظات الجوار ولا سيما حمص وحماه.

وسط انقسامٍ حادٍّ وظاهرٍ في أصوات السوريين، يتجسّد افتراق غير مسبوق في تبادل الاتهامات، والشتائم والتنمّر، أستطيع الزعم أنّه لم يكن أبدًا في العلاقات بين السوريين سابقًا، حيث ترتفع من جانب الموالين للحكومة اتهامات ضدّ الاقلّيات، وهي صفة تُطلق عمومًا على مكوّنات الجماعة الوطنية السورية من غير العرب المسلمين السنّة، لكنّها تركّز بشكلٍ خاصّ على الكرد، والدروز، والعلويين في الساحل. وأقلّ ما يوصف به الكرد أنّهم انفصاليون، يريدون اقتطاع جزء من أراضي سوريا لإقامة كيان كردي، وهي نغمة صارت تتردّد مؤخرًا عن الدروز، بل أضيف إليها اتهام بالخيانة عبر علاقةٍ مع الاسرائيليين، فيما الاتهامات ضدّ العلويين في الساحل، كانت جاهزةً باعتبارهم فلول نظام الأسد البائد، وراغبين في استعادة السلطة.

لا شكّ أن الاتهامات المقابلة، التي يسوقها رموز وفاعلون موالون لقوى الأمر الواقع في المناطق الثلاث ضدّ حكومة دمشق وسندها من المسلمين السنّة، ليست أقلّ بشاعةً من مثيلاتها الصادرة عن الطرف الأول، إذ تركّز على وصف الحكومة بـ"الإرهاب والتطرّف" وبأنّها تشكّل حاضنةً للتنظيمات المسلّحة التي تقف خلفها ولا سيما "هيئة تحرير الشام". ويزيد على ما سبق اتهام السلطة بإقامة كيانات الدولة على شاكلتها، وسط استئثار وتفرّد بالحكم، وإصدار وثائق وإطلاق تشكيلات لا تأخذ في عين الاعتبار واقع التعدّد والتنوّع والتشاركيّة، وتسكت عن جماعاتٍ مواليةٍ لها أكثر تطرّفًا من قوات الأمن العام والجيش وأغلبها جاء من "هيئة تحرير الشام"، يُنسب إليها أعمال دموية ومجازر وعمليات خطف وتعفيش، تمّت في الساحل ومحافظة السويداء، والتي تتّهم بها أيضًا تنظيمات مسلّحة من خارج إطار السلطة و"العشائر العربية" في المنطقتَيْن.

لم يسبق للسوريين أن خاضوا وُحول مثل هذه الحالة في أي فترة طوال القرن الماضي من عمر كيانهم الحديث

من دون أدنى شكّ، فإنّ أي صدامات وأعمال مسلحة، تؤدّي إلى خسائر بشرية ومادية وأخلاقية على جانبَيْ الخنادق، والكثير من المواجهات في أيامنا تشكّل جرائم بفعل ما فيها من أسلحة وذخائر وتقنيات مدمّرة، وسط قهر وأحقاد وفقر وجوع وانسدادات المستقبل. لكن ما يظهر من اتهامات الأصوات العالية لدى الجانبَيْن، يفوق ويتجاوز كل ما تمّ الحديث عنه من أحداث ووقائع، وهذا بعض ما يضعنا أمام حقائق يعرفها كثيرون، الأبرز فيها ثلاث حقائق:

أوّلها، أنّ السوريين لم يسبق لهم أن خاضوا وُحول مثل هذه الحالة في أي فترة طوال القرن الماضي من عمر كيانهم الحديث. بل إنّ ما حصل كان العكس تمامًا، إذ أفشل آباء الاستقلال السوري من مكوّنات الجماعة الوطنية الناهضة في حينه مساعي استمرار الهيمنة العثمانية - التركية، كما أفشلوا محاولات الانتداب الفرنسي تقسيم سوريا إلى كيانات، وأنجزوا الاستقلال بكيان موحّد.

ما حدث في مسار إسقاط الأسد كان تعبيرًا عن تضامن السوريين وحرصهم على أن يكون مستقبلهم الموحّد أفضل

الحقيقة الثانية، أنّ السوريين وعلى الرَّغم من كلّ الجهود والسياسات التي مورست من الخارج والداخل لخلق انقسامات وصراعات تُفتّت كيانهم، حافظوا على مستوى من وحدة، عبّر عن نفسه في مشاركة كلّ مكوّنات الجماعة الوطنية في مستوى الحراك العام ومستوى القيادة في الثورة ضدّ نظام الأسد عام 2011. بل إنّ صدى هتافات المتظاهرين والمحتجّين التضامنيّة بصفتهم شعبًا واحدًا، ما زالت تتردّد في آذان السوريين، وقد تجاوزت الحالة حدود القول إلى تشاركيّات كثيرة ما زالت في ذاكرة السوريين وعلاقاتهم، على الرَّغم ممّا تعرّضوا له من مآسٍ وكوارث في سنوات الحرب. ويمكن القول إنّ ما حدث في مسار إسقاط الأسد وحلول السلطة الحالية مكانه، من تجنّب مواجهة مسلحة وأعمال انتقامية متوقّعة، كان تعبيرًا عن وحدة وتضامن السوريين وحرصهم على أن يكون مستقبلهم الموحّد أفضل.

الحقيقة الثالثة والأهم، أنّه علينا ربط ما يجري من ارتفاع الصوت، وما يؤدّي له من ارتكاباتٍ تصل إلى حدود الجرائم في إشاعة الكراهية والاتهامات والتحريض بأمرَيْن اثنَيْن؛ الأوّل ما يُحيط بالسوريين من عوامل إحباط ويأس وخوف من المستقبل، ليس فيه إلّا أقوال، فيما الأفعال والتطوّرات الإيجابية غائبة مع غيابٍ للنّخب واستبعادها من دورٍ إنقاذي، ممّا يجعل الوضع في أيدي حملة السلاح والإيديولوجيين الشعبويين الذين يميلون نحو تبنّي ادّعاءات وشعارات ما قبل الوطنية لضمان فرصة تجنيد موالين من باب إعلان المظلوميّة وإشاعة الكراهية وتخوين الآخر، والعمل عليها في أكثر الوسائل شيوعًا وتأثيرًا ومنها وسائل التواصل الاجتماعي.

بيّنت أحداث ومجريات الأشهر العشرة الماضية تفاصيل تدخّلات إسرائيلية وإيرانية وروسية وتواصلها مع أطراف داخلية 

وثمّة جانب لا بدّ من الإشارة إليه في عمق ما تقدّم، وهو أنّ ثمّة كتلة إقليمية - دولية لها امتدادات داخلية عيونها مفتوحة على سوريا، لها مصالح ولو كانت متناقضة في منع الخروج ممّا خلّفه نظام الأسد، وفتح بوّابات مستقبل أفضل، ممّا يجعل أطراف الكتلة معنيين بواقع سوريا، ودفعه في اتجاهاتٍ تستجيب لمصالحهم. فيسعى بعضهم إلى خلق صعوبات في وجه النظام القائم سواء لإضعافه والقضاء عليه أو دفعه إلى أحضانهم، أو للبعد عن أطراف أخرى منافسة، وقد بيّنت أحداث ومجريات الأشهر العشرة الماضية من عمر النظام الجديد الكثير من تفاصيل التدخّلات الخارجية وبخاصة الإسرائيلية والإيرانية والروسية وتواصلها مع أطراف داخلية خلال أحداث سياسية وأمنية.

بطبيعة الحال، فإنّه لا يُمكن عزل الأطراف الخارجية والداخلية عمّا يحدث في ظاهرة الأصوات السورية العالية الحاضرة بقوة على وسائل التواصل الاجتماعي، وثمّة الكثير من المعطيات والمؤشرات عن هذا الدور بدأت في الظهور، تكشف سذاجة المشاركين السوريين في معركةٍ تُلحق أشدّ الضرر بمصالح سوريا والسوريين.. وأوّل المتضرّرين أصحاب الأصوات العالية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن