مع استمرار التوتّر السياسي والاقتصادي بين الغرب من جهةٍ، وبين الصين وروسيا من جهةٍ أخرى، تزداد المؤشرات إلى الانفصال الاقتصادي والتنافس على الموارد والنفوذ حول العالم بين الجانبَيْن. تتمّ هذه العملية ببطءٍ ولن تُترجم في الأغلب لحربٍ عالميةٍ ثالثةٍ كما يبالغ البعض، أو حربٍ باردةٍ مماثلةٍ لتلك التي كانت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي حين انقسم فيها العالم إلى معسكرَيْن. ولكنّها ستُترجم إلى صراع نفوذٍ اقتصادي وتكنولوجي بين الصين وأميركا مع تبعاتٍ أقلّ في الجوانب السياسية والعسكرية.
إذ ينقسم العالم تدريجيًّا إلى ساحتَيْن؛ الأولى غربية تضمّ أميركا والاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية، والثانية تضمّ الصين وروسيا والدول المنبوذة غربيًا مثل إيران وكوريا الشمالية وبيلاروسيا، ويضاف إليها دول آسيا الوسطى التي، على الرَّغم من سعيها للانفتاح السياسي والاقتصادي على الغرب، إلّا أنّها مرتبطة بحكم الموقع والتاريخ بالصين وروسيا.
يزيد من احتمالات التنافس على العالم الثالث أنّ الغرب أغلق بشكل كبير مسارات التعامل الاقتصادي مع روسيا
وهناك الساحات شبه المحايدة أبرزها أفريقيا جنوب الصحراء التي يبدو أنّها تقترب من الصين الناشطة هناك في التصدير والإقراض ومشروعات البنية التحتية والاتصالات والتعدين، كما يزداد النفوذ العسكري والأمني الروسي في القارة.
وفي أميركا اللاتينية، يتصاعد الوزن الاقتصادي للصين ليس فقط عبر تدفّق الصادرات كما يظهر في السيارات الصينية، بل أيضًا عبر تدفّق الاستثمارات الصينية إلى المنطقة، إضافةً إلى شراء المواد الخام والاستثمار في تعدينها. وتستفيد الصين أيضًا من المزاج المُتمرّد على واشنطن، خصوصًا من قبل الحكومات اليسارية، ولكن تظلّ هناك حدود للنفوذ الصيني في أميركا اللاتينية باعتبارها حديقة واشنطن الخلفية، إضافةً لكونها بشكلٍ ما امتدادًا ثقافيًا للغرب، والأهمّ أن أقصى اليمين في القارّة والمُمسِك بمقدّراتها المالية مُنحاز إلى الولايات المتحدة ومعادٍ للصين باعتبارها دولةً آسيوية.
وهناك منطقة جنوب شرق آسيا المرتبطة اقتصاديًا بقوة بالصين والولايات المتحدة على السّواء، ولكنّها متوجّسة من صعود بكين وتوسّعها في بحر الصين الجنوبي ولا تريد إغضابها في الوقت ذاته. ولذا، أغلب دولها باستثناء الفيليبين ترفض التساوق مع العداء الأميركي ضدّ الصين. وعلى الأرجح، ستُواصل هذه الدول تعزيز روابطها الاقتصادية مع بكين، إلى جانب تقوية علاقاتها العسكرية والسياسية مع الغرب، مثلما تفعل إندونيسيا التي أبرمت صفقة مقاتلات مع فرنسا وعقدت مذكّرة تفاهم لشراء مقاتلات أميركية.
ويزيد من احتمالات التنافس على العالم الثالث، أنّ الغرب أغلق بشكلٍ كبيرٍ مسارات التعامل الاقتصادي مع روسيا، ويفعل ذلك بشكلٍ أبطأ مع الصين لاعتماده عليها بشكلٍ كبيرٍ في سلاسل التوريد من المواد الخام النادرة مرورًا بالسلع الوسيطة وصولًا إلى المنتجات التكنولوجية، التي تصنع نسبةً كبيرةً منها شركات غربية داخل الصين.
أغلب الاستثمارات الصينية في الدول العربية تظلّ مصانع للتجميع وهناك شكوك حول تَضَمُّنِها نقلًا حقيقيًا للتكنولوجيا
وحاليًا تتراجع تدريجيًّا نسب تجارة الصين مع الولايات المتحدة التي تُعدّ السوق الأهمّ لبكين، واللّافت أنّ الأخيرة تعوّض هذه الخسارة بشكلٍ كبيرٍ عبر زيادة التصدير إلى العالم النامي (ارتفعت صادرات الصين إلى أفريقيا بنسبة 25% منذ بداية العام الحالي) بما يهدّد بإغراق أسواقها بالمنتجات الصينية الرخيصة، ما قد يضرّ بالصناعات الوطنية لهذه البلدان، ولقد أصبحت بعض الدول العربية، مثل السعودية والإمارات وبصورةٍ أقلّ مصر، من أهم مستوردي السيارات الصينية.
ولقد بدأت بكين تنتبه لما قد تثيره هذه السياسة من اعتراضاتٍ محلّيةٍ فشرعت الشركات الصينية في تأسيس مصانع في دول مثل البرازيل وتايلاند.
وفي مصر، يُتوقع أن تصل الاستثمارات الصينية في مجال تجميع السيارات إلى نحو مليار دولار.
ولكن تظلّ أغلب هذه الاستثمارات مصانع للتجميع وهناك شكوك حول تَضَمُّنِها نقلًا حقيقيًا للتكنولوجيا في ظلّ الطبع الصيني الحذر وقلق بكين من تكرار هذه الدول تجربتها في اقتباس التكنولوجيا عن الغرب.
يبقى وضع العالم العربي الأكثر حساسيةً في الصراع المرتقب حيث تَرَسَّخَ النفوذ الأميركي بشكلٍ كاسحٍ في المنطقة، بخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ولكنّ الصين اليوم هي أكبر مستورد للنفط العربي ممّا يجعلها شريكًا لا غنى عنه.
والولايات المتحدة حليفٌ منحازٌ بفجاجةٍ لإسرائيل التي تحوّل طموحها السابق من التطبيع مع الدول العربية، إلى السعي لاحتلال المزيد من أراضي بعضها وانتهاك سيادتها، مثلما يحدث مع سوريا ولبنان بعدوانيةٍ غير مسبوقةٍ منذ عقود. ويبدو أنّها لم تعد حريصةً حتى على رضا الدول العربية الرئيسيّة الحليفة لأميركا والتي ارتضت التطبيع شرطَ تقديم إسرائيل مجرّد وعود بشأن بعض الحقوق الفلسطينية.
أول ما تحتاجه الدول العربية هو تعزيز تعاونها السياسي والاقتصادي والدفاعي الجماعي لتكون كتلة موحّدة وقوية
يجعل الدعم الأميركي للحكومة الإسرائيلية المتطرّفة الوضع الحالي، لا يمثّل خطرًا فقط على الشعب الفلسطيني أو الأمن القومي العربي الجماعي أو دول الجوار مع فلسطين، بل يهدّد حتى أشدّ الدول العربية تحالفًا مع واشنطن، كما ظهر في الهجوم الإسرائيلي على مقر قادة حركة "حماس" في الدوحة.
وبالتالي فإنّ استمرار الاعتماد العربي على الغرب في الأمن والاقتصاد، يُعَدُّ عملًا محفوفًا بالمخاطر خصوصًا إذا تزامن مع ضغط واشنطن على الدول العربية للابتعاد عن بكين أو تقبّل الخطط الإسرائيلية.
وفي المقابل، فإنّ إلقاء كل أوراق الرهان العربية على الصين مخاطرة أيضًا، لأنّه قد يستثير ردود فعل أميركية وغربية حادّة، لن يواجهها في الأغلب موقف صيني حازم يدعم الجانب العربي. فكما سبق أن رأينا كان الدعم الصيني للدول التي تعرّضت لعقوبات غربية أو هجمات غربية أو إسرائيلية محدودًا، مثلما حدث مع كوريا الشمالية وإيران وحتى روسيا، إذ لا تميل بكين في سعيها لنشر نفوذها العالمي إلى المواجهة، وتتجنّب تحمّل تبعات تحالفاتها أو تزويد شركائها بمقدّرات تُغيّر توازنات القوى باستثناء دعمها لباكستان ضد الهند. إذ تريد الصين بناء شبكة علاقاتٍ بلا ثمن وهي لا تُبرم أي اتفاقات أو تتّخذ مواقف تُلزمها بحماية شركائها.
في مواجهة هذا الوضع، تحتاج الدول العربية إلى الحذر الشديد في تحرّكاتها، وأول ما تحتاجه هو تعزيز تعاونها السياسي والاقتصادي والدفاعي الجماعي لتكون كتلةً موحّدةً وقويةً في التفاوض مع الصين وأميركا وفي مواجهة العربدة الإسرائيلية.
السلوك الجماعي يُعطي العرب قوة مضاعفة والتعامل الفردي يجعل كلّ دولة طرفًا ضعيفًا أمام بكين وواشنطن وإسرائيل
كما تحتاج الدول العربية في توجّهها المطلوب لتعزيز التعاون مع الصين إلى نيل مكاسب حقيقية في ظلّ المخاطر في المنطقة مع احتمال تحوّلها إلى بؤرةٍ للتنافس الصيني - الأميركي.
يعني ذلك أن يُقابِل فتح الأسواق العربية للمنتجات الصينية، نقلٌ حقيقيّ للتكنولوجيات المتقدمة خصوصًا في صناعات الدفاع والإلكترونيات والسيارات، والاستفادة من التقدّم الصيني في هذه المجالات لتقليص الفجوة مع إسرائيل، والاهتمام بتدريب العنصر المحلّي لمضاعفة القدرات الذاتية في ظلّ البيئة الإقليمية المضطربة.
يظلّ مفتاح تحويل التنافس الصيني - الأميركي في المنطقة إلى فرصة، مرتبطًا بالسلوك الجماعي العربي الذي سيُعطي العرب قوةً مضاعفة، بينما التعامل الفردي سيجعل كلّ دولة عربية طرفًا ضعيفًا أمام بكين وواشنطن، والأهمّ أمام إسرائيل.
(خاص "عروبة 22")