هذا التيّار هو أحد فروع ظاهرة "اليسار الإسلامي"، ونتوقّف هنا عند النسخة الأوروبية، وبخاصّة دول أوروبا الغربية، لأنّها غنيّة بالأمثلة والدروس، ولا سيما أنّ سمعة أوروبا الغربية في علاقتها بالدين ليست نمطية، حتّى أنّها تتميّز بوجود أكثر الأنماط انفتاحًا في العلمانية، كما هو الحال مع العلمانية البريطانية أو النسخة الأكثر تشدّدًا، في فرنسا بالتحديد وتسمّى لائكية (Laïcité).
ميشال فوكو تراجع عن دفاعه عن "الثورة الإسلامية" في إيران بعد أن عاين الوجه الآخر لتلك الثورة
كان اليسار الإسلامي حينها، وحتى اليوم، يُقصد به مواقف فعّاليات يسارية المرجعية، من حقل السياسة أو الفكر أو الإعلام... إلخ، لديها مواقف إيجابية من قضايا الإسلام والمسلمين. ومن هنا شهرة ميشال فوكو (Michel Foucault) بدايةً في دفاعه عن "الثورة الإسلامية" في إيران، قبل تراجعه لاحقًا بعد أن عاين الوجه الآخر لتلك الثورة، أي تصفية نظام الملالي لحلفاء الأمس، بما يشمل المرجعيات اليسارية التي تحالفت معه من أجل إسقاط نظام الشاه!.
والحال أنّ ارتفاع مؤشرات "الصحوة الإسلامية" لم يكن يقتصر على الوطن العربي فحسب، وإنّما سوف نعاينه شيئًا فشيئًا حتى في دول أوروبا الغربية، ومع اندلاع بعض الأحداث المرتبطة بالجاليات العربية والمسلمة في أوروبا، من قبيل العنصرية أو "اللباس الإسلامي" فالأحرى أحداث العنف والاعتداءات التي مرّت بها بعض الدول الأوروبية، بخاصّة بعد منعطف اعتداءات نيويورك وواشنطن، سوف تبزغ أولى القلاقل بخصوص مواقف رموز اليسار الإسلامي في أوروبا من تلك الأحداث. بل لا تزال المعضلة قائمة، وعنوانها أنّ نسبةً من رموز اليسار الإسلامي أصبحت شبه مُتخصّصة في الدفاع عن قضايا الحركات الإسلامية، وهو الموقف الذي نزعم أنّه تسبّب في إثارة لغطٍ لدى نسبة من الرأي العام الأوروبي.
من تبعات ذلك اللغط، أنّ مواقف الإسلاميين هناك أصبحت تتعامل معها نسبة من الرأي العام الأوروبي المعني، كما لو أنّها مواقف مسلمي أوروبا. ونخصّ بالذكر، في الحالة الفرنسية على سبيل المثال، موقف "الثنائي" إدوي بلينيل (Edwy Plenel)، وهو إعلامي وباحث، قادم من مرجعية يسارية تروتسكية، مؤسّس منصة "Mediapart" المتخصّصة في التحقيقات، ويُلقّب من طرف بعض نقّاد التيار بأنّه "بابا اليسار الإسلامي" في فرنسا. أو فرانسوا بورغا (François Burgat)، وهو مدير الأبحاث في معهد البحوث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي في جامعة "Aix-en-Provence" جنوبي فرنسا، واشتُهر عند المتتبعين العرب بالاشتغال على الحركات الإسلامية، ومؤلف عناوين عدّة في الموضوع.
اليسار الإسلامي واقع لا يرتفع، ولكن مع فوارق كبيرة في طبيعة خطابه ومشروعه، لأنّنا إزاء تيارَيْن اثنَيْن على الأقلّ: يُقصد بالتيار الأول المرجعية اليسارية التي تدافع عن قضايا الإسلام والمسلمين، من منظور النزعة الإنسانية على الخصوص، دفاعًا عن الآخر، ودفاعًا أيضًا عن بعض النتائج العالمية التي تلت صدور كتاب "الاستشراق" للراحل إدوارد سعيد، وبالتالي، هناك همٌّ إنسانيٌ صريحٌ، حتى لو كان مغلفًا بمرجعيةٍ إيديولوجيةٍ يساريةٍ، يقف وراء تبنّي هذا الخيار في الدفاع عن مسلمي أوروبا الغربية. ويُقصد بالتيار الثاني، وهو أقلية مقارنةً بالتيار الأول، مرجعية يسارية، متحالفة مع المرجعية الإسلامية الحركية، وبخاصّة المرجعية الإخوانية هناك.
نحن إزاء تحوّل من موقف أقلام يسارية في أوروبا اشتُهرت بالدفاع عن قضايا الإسلام والمسلمين، نحو فئةٍ من الأقلام نفسِها، تكاد تكون مُتخصّصةً في قضايا الحركات الإسلامية، مع أنّ هذه الأخيرة جزء من المشهد الثقافي للجالية العربية والمسلمة في أوروبا وليست ناطقةً باسم قضايا هذه الجالية.
نعاين في بعض الدول العربية ظاهرة الحوار العلماني - الإسلامي بصرف النظر عن تراجع تأثير الحوار القومي الإسلامي
بقيت أمامنا أسباب هذا التحوّل عند نسبةٍ من أقلام اليسار الإسلامي، ونزعم أنّه في خانة تلك الأسباب التي تساعدنا في قراءة أسباب دفاع اليساريين في الساحة الأوروبية عن الحركات الإسلامية، سببان اثنان على الأقلّ: نقد الرأسمالية ونقد الدولة الوطنية، ضمن أسباب أخرى.
واضحٌ أنّنا نعاين الظاهرة نفسها في بعض الدول العربية، والتي أصبح يُصطلح عليها اليوم بظاهرة الحوار العلماني - الإسلامي (هناك ثلاثة إصدارات حول الموضوع هنا في المغرب، وتقريبًا بالعنوان نفسه، وليس صدفةً أنّها صدرت عن أقلامٍ قادمةٍ من الحركة الإسلامية: عملان بالتحديد، مقابل عمل ثالث، أشرف عليه باحث محسوب على المرجعية العلمانية). نقول هذا بصرف النظر عن تراجع تأثير ونفوذ ظاهرة الحوار القومي الإسلامي، التي كانت سائدةً في الساحة العربية قبل منعطف 2011، وقبل تراجع تأثيرها مباشرةً بعد اندلاع تلك الأحداث.
(خاص "عروبة 22")