اقتصاد ومال

الهجرة في الوطن العربي: بين تنفيس الاحتقان وتحدّيات التنمية!

شكّلت الهجرة النظامية وغير النظامية لعقودٍ طويلةٍ متنفّسًا للعديد من الدول العربية، إذ مثّلت طوق نجاةٍ ساعدها على تجنّب انفجارات اجتماعية كان يمكن أن تترتّب عن فشل السياسات التنموية، واستفحال البطالة، وتردّي الأوضاع الحقوقيّة. فقد سمحت موجات الهجرة، خاصّةً خلال الثمانينيّات والتسعينيّات، لملايين المواطنين بالانتقال إلى أوروبا والخليج العربي والولايات المتحدة الأميركية، وهو ما تغاضت عنه أغلب هذه الدول في تلك الفترة. غير أنّ الضغوط الأوروبية، خصوصًا من الاتحاد الأوروبي، سرعان ما فرضت على الحكومات العربية الانخراط في جهود ضبط التدفّقات، لا سيما بعد تضاعف أعداد المهاجرين غير النظاميين القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء.

الهجرة في الوطن العربي: بين تنفيس الاحتقان وتحدّيات التنمية!

لقد مكّن هذا الوضع بعض الدول العربية من امتصاص جزءٍ كبيرٍ من التوتّر الاجتماعي. فقد شهدت تلك العقود اضطراباتٍ واسعةً في مصر زمن السادات، إضافةً إلى حروبٍ أهليةٍ في اليمن والسودان ولبنان، واحتجاجاتٍ اجتماعيةٍ في سوريا وتونس والجزائر والمغرب. وبما أنّ هذه الدول لم تستطع احتواء مطالب الأجيال الجديدة، فقد اعتمدت الهجرة كصمّام أمانٍ، على الرَّغم من إدراكها أنّها تسبّبت في نزيفٍ بشريّ خطيرٍ، خصوصًا ما يتعلّق بالكفاءات والأطر العليا.

ويكفي أن نشير إلى المغرب الذي فقد ما بين سنتَيْ 2007 و2023 أكثر من 15 ألف إطار طبّي، من بينهم حوالي 7000 طبيب، وهو ما ساهم في إحداث عجزٍ هيكليّ في القطاع الصحي انعكس مباشرةً على جودة الخدمات الطبية. هذا النزيف لم يقتصر على المغرب وحده، بل أثّر سلبًا في مسار التنمية في معظم الدول العربية التي وجدت نفسها عاجزةً عن بناء اقتصاداتٍ قويةٍ بالاعتماد فقط على ما تبقّى لديها من موارد بشرية محلية.

التحويلات المالية: بين إنقاذ الاقتصاد وتكريس التبعية

مع مرور الوقت، تحوّلت الهجرة من وسيلةٍ لتنفيس الاحتقان الاجتماعي إلى معطًى اقتصاديّ مركزيّ، حيث أصبحت تحويلات المهاجرين الماليّة مصدرًا حيويًا لدعم ميزانيات الدول وتغطية جزءٍ من عجزها التجاري. فقد بلغت تحويلات المصريين في الخارج في سنتَيْ 2024 و2025 نحو 36.5 مليار دولار، لتتحوّل إلى أهمّ مورد للعملة الصعبة، إلى جانب عائدات قناة السويس والسياحة والاستثمار الأجنبي المباشر. ويُقدّر عدد المصريين في الخارج بحوالي 14 مليون شخص، أغلبهم في الخليج وليبيا.

بقيت التحويلات المعرفيّة محدودة بسبب غياب التحفيزات وضعف سياسات الاستقبال وتردّي الوضع الحقوقي

أمّا المغرب، فقد استفاد بدوره من تحويلات جاليته التي تفوق ستة ملايين مهاجر، حيث تجاوزت قيمة التحويلات 13 مليار دولار خلال السنة الماضية. في المقابل، لم تتعدَّ تحويلات الجزائريين 2 مليار دولار، على الرَّغم من أنّ عددهم يفوق 5 ملايين، وهو ما يرتبط بضعف الشبكة المصرفيّة الجزائريّة وطبيعة سياساتها النقدية المتشدّدة مقارنةً بالنهج المنفتح لمصر والمغرب. وبهذا، خسر الاقتصاد الجزائري فرصًا كبيرةً للاستفادة من هذه الموارد المالية.

لقد لعبت هذه التحويلات أدوارًا متعدّدةً، إذ ساعدت على تعزيز احتياطيّ النقد الأجنبي، والحدّ من التضخّم، وتقليص السوق السوداء للعملات، إضافةً إلى دعم القدرة الشرائية لملايين الأُسَر العربية. فهي بمثابة نظام ضمان اجتماعيّ موازٍ، تكفّل بسدّ احتياجات أساسية من غذاء وتعليم وصحة في ظلّ عجز السياسات الحكومية. كما ساهمت في تطوير المنظومات البنكيّة من خلال توسيع قاعدة الودائع وتعزيز السيولة.

استثمار التحوّلات الرقمية والتكنولوجية يُتيح فرصًا كبرى لتوظيف المهاجرين كقوة ناعمة في خدمة مصالح بلدانهم

غير أنّ غياب رؤيةٍ استراتيجيةٍ حرم هذه الموارد من أن تتحوّل إلى رافعةٍ تنمويةٍ حقيقية. فمعظم الاستثمارات الناتجة عن التحويلات بقيت محصورةً في العقار والفلاحة وبعض الخدمات، من دون أن تمتدَّ إلى قطاعاتٍ واعدةٍ كالتكنولوجيا والصناعة والطاقات المتجدّدة. كما أنّ التحويلات ظلّت ماديةً بالأساس، بينما بقيت التحويلات المعرفيّة ــ أي نقل الخبرات والكفاءات والابتكارات ــ محدودةً بسبب غياب التحفيزات وضعف سياسات الاستقبال، بل وأحيانًا بسبب تردّي الوضع الحقوقي.

نحو رؤية جديدة للهجرة

إنّ استمرار التعامل مع المهاجر باعتباره مجرّد مصدرٍ للتحويلات المالية يُعدّ خطًأ استراتيجيّا. فالدول العربية مدعوّة اليوم إلى تبنّي سياساتٍ جديدةٍ تدمج أجيال المهاجرين في مشروعها التنمويّ، عبر الاعتراف الكامل بحقوقهم في المواطَنة والتمثيليّة السياسيّة، وتعزيز الروابط الثقافية معهم، وتشجيعهم على الاستثمار ونقل معارفهم وخبراتهم. كما أنّ استثمار التحوّلات الرقمية والتكنولوجية في هذا المجال قد يُتيح فرصًا كبرى لتوظيف المهاجرين كأدواتٍ للقوة الناعمة في خدمة المصالح الاستراتيجية والديبلوماسية لبلدانهم.

إنّ التصالح مع المهاجرين وبناء الثقة معهم لم يعد خيارًا ثانويًا، بل ضرورةً مُلحّةً تفرضها رهانات التنمية والاستقرار على حدٍّ سواء.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن