المشروع العربي وآفاق المستقبل

المشاريع التقنية والمعلوماتيّة العربية!

المُخطّطون للمشاريع العربية التنموية والنهضوية سواء على المستوى المحلّي أو القومي، يُدركون جيّدًا أنّ التكنولوجيا هي في صميم التفكير التخطيطي، خصوصًا التقنيات المعلوماتيّة في شتّى صورها النظرية والعملية. لأنّ المسألة من هذا الجانب، بقدر ما تستند على فلسفةٍ عصريةٍ أو تصوّراتٍ فكريةٍ طموحةٍ، فهي لا بدّ أن يتجسّد ما يقابلها من أعمالٍ ماديةٍ ملموسةٍ على أرض الواقع، لتُشكّل في مجموعها النّموذج الحضاري المنشود للمجتمعات العربية. 

المشاريع التقنية والمعلوماتيّة العربية!

من هنا، فإنّ هذه المشاريع بجملتها عليها أن تستهدف غاياتها في إنجازاتٍ أو مُكتسباتٍ معينةٍ، يُمكن إيجازها في أربع نقاطٍ رئيسية:

أولًا: المحافظة على السّمات العربية في اللغة والثقافة، أي إبراز الهوية الثقافية المتميّزة. ما يعني أساسًا خلق البيئات المُجتمعيّة المناسبة التي تجعل الاهتمام باللغة العربية وآدابها أولويةً قصوى على مختلف الأصعدة السياسية والثقافية والاقتصادية، فضلًا عن التعليمية والإعلامية، خصوصًا الاعتناء بحمايتها، وفرض استخدامها لغةً أولى، وربّما الوحيدة، إن أمكن الاستغناء عن اللغات الأجنبية في أيّ مجالٍ من المجالات.

يجب تحويل العرب من مُستهلكين للتكنولوجيا إلى مُبدعين ومُصدّرين وفاعلين حقيقيين في حضارة العصر

ثانيًا: تعزيز السيادة الرقمية في سائر تطبيقات تكنولوجيا المعلومات المُستخدمة. الأمر الذي يحتاج إلى تمكين العقول العربية المُبدعة في مجالاتها بأن تكون صانعةَ القرار، في ظلّ تشريعاتٍ ولوائحَ قانونيةٍ تدعم الإبداعات والمُبتكرات العربية وتحميها وتفضّلها على غيرها من التقنيات الأجنبية المُستوردة.

ثالثًا: دَفْعُ الاقتصاد العربي نحو المعرفة، بمعنى التحوّل من الاعتماد على الاقتصاد الرّيعي إلى اقتصاد المعرفة، شاملًا ذلك تغيير ثقافة الاقتصاد القديم، والاتّكال على الموارد الطبيعية من دون إقامة صناعاتها بأيدٍ وعقولٍ عربية.

رابعًا: مُواءمة هذه المشاريع العربية لتصبّ في الصالح العربي المشترك للتنمية المُستدامة، وتصبح بصورةٍ أو بأخرى مشاريع قوميةً تجمع التوجّهات المتفرّقة ذات العلاقة نحو مسار النهوض الموحّد، خصوصًا من خلال تحويل العرب من مُستهلكين للتكنولوجيا إلى مُبدعين ومُصدّرين وفاعلين حقيقيين في حضارة العصر.

لا شكّ أنّ النقطة الأخيرة هي البوصلة التي تصلُنا بحلم التقدّم، أو بالأحرى إنّها تتويجٌ لمختلف المشاريع التي تُعنى بالارتقاء والتكتّل العربي الاقتصادي والثقافي ناهيك عن السياسي والعسكري، وتحدّي الظروف والمُختنقات التي قد تُعرقل ذلك وتحول دون تحقيقه في أقرب وقت ممكن.

لتوحيد الجهود العربية في شتّى مجالات بناء الذات والاستثمار في المواهب والقُدرات الشابّة

إنّه سباقٌ مصيريّ بين ساعة التغيّر الكوكبي السريع وبين مسافة الوصول للاعتماد على الذات العربية، واكتساب المكانة المناسبة للعرب في الحضور العالمي، في شتّى مجالات الفعّالية والقوة المعنوية والمادية؛ في الاقتصاد والتجارة، وفي الثقافة والإعلام، فضلًا عن السياسة والعلاقات الدولية والهيبة العسكرية الموحّدة.

صحيح أنّ المسار يبدو صعبًا وشاقًّا، لكنّه مُحفّزٌ للمضيّ فيه من أجل غايته النبيلة التي هي أقرب ممّا نتصوّر، إن صدقت النوايا وسلمت المشاريع العربية من التعثّر والانتكاس لسببٍ أو لآخر، الأمر يتطلّب شيئًا واحدًا جوهريًّا: توحيد الجهود العربية في شتّى مجالات بناء الذات، حتى تنطلق المبادرات والمشاريع المتنوّعة بصورة مشتركة، في ظلّ سياسات موحّدة، وتطبيقات عربية في أطر التجريب العلمي والتقني، والاستثمار في المواهب والقُدرات الشابّة، بدءًا بفتح أبواب التعليم المشترك وتوزيع إمكانياته، والتدريب، والبحث العلمي، إلى جانب موازنة مُعطيات الموارد البشرية والاقتصادية المُتباينة، وتوظيفها بصورةٍ متكافئةٍ بين المجتمعات العربية.

وإذا ما ركّزنا النظر في الشقّ التكنولوجي لهذا المسار، تأتي مشاريع بعينها في مقدمة الخيارات: تأسيس مشاريع الإنتاج والاستثمار المشتركة، مثل بناء مدن المعرفة وربط مجتمعات المعرفة العربية بعضها ببعض؛ من أجل التعاون المُتواصل وتبادل الخبرات والمشاركة في الجهود الرقمية فيما بينها. مثلًا في الذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، وإنتاج بدائل عربية للبرمجيّات والعتاد والخدمات التقنية المُستورَدة. وكذلك، تسهيل سُبل الوصول إلى المعرفة في شتّى المجالات، وتقريب المسافات الذهنية بين مختلف فئات المُتعلّمين، خصوصًا عبر تطوير أنظمة التعليم الإلكتروني وتقنيات التعلّم عن بعد.

مشاريع الاقتصاد والتعليم والصناعة والسياسة والثقافة تعتمد على بعضها في شكلٍ تكافليّ تكامليّ

لا ننسى أنَّ من دعامات النجاح هو تحقيق الاستقلال الحاسوبي كليًّا، في لغات البرمجة وأنظمة التشغيل والتطبيقات الجاهزة، إضافةً إلى استقلالية المُطوّرين العرب وعدم ارتباطهم بمؤسّسات أجنبية تحتكر عقولهم وإبداعاتهم. ويظلّ الاعتماد على الشباب أساسًا في هذه الطريق، أي ضرورة تشجيع المبادرات الطموحة، وطرح الأفكار الواعدة للتطوير، والنقد، والفحص والتدقيق، الأمر الذي يحتاج إلى التعاون القوي بين القطاعَيْن العام والخاص في البلدان العربية.

إنّ المشاريع التقنية والمعلوماتية العربية بشكلٍ خاصٍّ، هي في حقيقتها مشاريع مُتعدّدة الأبعاد، لا يمكن حصرها في توجّهٍ واحدٍ، عامًّا أو خاصّا. إنّها مشاريع الاقتصاد والتعليم والصناعة والسياسة والثقافة. ومن ثمّ، فهي تعتمد على بعضها البعض في شكلٍ تكافليّ تكامليّ؛ تتواءم فيه روح المبادرة والمنافسة وجرأة التجربة وتحمّل المسؤولية، والبحث دائمًا عمّا يُمكن إنجازه عربيًا، لا استيراده جاهزًا أو تحسينه اعتمادًا على الغير.

في هذا الخصوص، تبرز الثقة في النفس على درجةٍ عاليةٍ من الأهمية، بخاصّة تعميق الإيمان بقدرات الإنسان العربي الطبيعية والمُكتسَبة، وحريته في الرأي والتعبير والاختلاف من دون وصايةٍ على فكره وتفكيره وقراره وخياره، وحقّه في العيش الكريم والرعاية الصحية طوال سنوات العمر. ولنا أسوةٌ في شعوبٍ شرقيةٍ أخرى استطاعت أن تلحق بالغرب المتقدّم، وتنافسه، في بضعة عقودٍ، بل وتتفوّق عليه في مجالاتٍ عدّةٍ، مثل اليابان والهند وكوريا الجنوبية وتركيا وغيرها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن