إذا كان تفسير التضخّم في الاقتصادات التقليديّة يتمّ من خلال زيادة العروض النّقدية، والاختلالات في العرض والطّلب، فإنّ فهم التضخّم في السياق العربي يحدث وفق ما يُطلِق عليه سمير أمين "الاقتصاد التبعيّ"، إذ يرتبط مستوى الأسعار ومُعدّل النموّ ونمط الاستهلاك بآلياتٍ خارجيّةٍ وداخليّةٍ تنتعش بالرّيع أكثر ممّا تنتعش بالإنتاج. غير أنّ الرّيع هنا لا يرتبط بالعائد النّفطي فقط، بل يشمل كلّ الموارد غير المنتجة والتي تضمّ المساعدات والتحويلات والامتيازات الجيوسياسية واحتكار الدّولة نفسها للثروات الطّبيعيّة.
الاقتصاد العربي يعيش تضخّمًا مزدوجًا إذ تُضَخّ الأموال في قطاعات غير منتجة
هكذا يصبحُ التضخّم العربي انعكاسًا لاختلالٍ بنيويّ في علاقة الدّولة بالمجتمع. فالدّولة الرّيعية لا تعتمد على الضّرائب كمصدرٍ للشرعية الماليّة، بل على العائد الرّيعي. الأمر الذّي يجعل علاقتها بالمواطن علاقة توزيع لا تمثيل، وبذلك تنشأ اقتصادياتٌ قائمةٌ على الإنفاق العام السخيّ، ودعم الأسعار، وتوسيع الجهاز البيروقراطي. وهذا ما يتسبّب في تضخّمٍ نقديّ مبالغٍ فيه من دون زيادةٍ إيجابيةٍ مقابلةٍ في الإنتاج الحقيقي.
بناءً عليه، يُصبح التضخّم علامةً على فائضٍ نقديّ بلا محتوى إنتاجي، وعلى تراكمٍ ماليّ غير منتجٍ للقيمة. هنا يتحوّل الاستهلاك إلى قيمةٍ اجتماعيةٍ سلبيةٍ، بينما يُترك العمل المُنتج على الهامش. هذه المفارقة تجعل التضخّم في البلاد العربيّة ظاهرةً اجتماعيّةً – سياسيةً، فضلًا عن كونه ظاهرةً اقتصاديّة.
يمكن أن نقدّم تفسيرًا لهذه المفارقة من خلال ما يسمّى "التحديث الشكلي" باعتباره آلية توصيف للمجتمعات العربية التّي نهجت طريق الاقتصاد الرّأسمالي، بحيث يكون التحديث وِفق هذه الآلية شكلًا للاستعراض فقط، لأنّه لا يتبنّى النهج الإنتاجي. بمعنى أنّ الرأسمال في السياق العربي لا يُعيد إنتاج نفسه عبر الصناعة أو الزراعة أو التكنولوجيا، بل عبر إعادة توزيع الرّيع المُتأتّي من خارج الدورة الاقتصادية المُنتجة، وهذا ما يجعل الاقتصاد العربي يعيش تضخّمًا مزدوجًا: تضخّم الأسعار وتضخّم الرموز، إذ تُضَخُّ الأموال في قطاعاتٍ غير منتجةٍ مثل العقار والاستهلاك والخدمات الإداريّة، في حين يظلّ الاستثمار الصناعي والزراعي والتكنولوجي شبه غائب.
ازدواجية الرّيع والتضخّم شكل من أشكال العنف الاقتصادي ضدّ الشعوب العربية وآلية لإعادة الهيمنة والاستبداد
إنّ السّمات البارزة التّي تُميّز الرّيع العربي، تتمثّل في المُحدّدات التالية: الاعتماد على مصدرٍ خارجيّ للثروة لا على إنتاج الثّروة. تحويل الجزء الأعظم من العائد نحو التّوزيع. وأخيرًا تأطير الدّولة للرّيع باعتباره آليةً قويّةً للتحكّم. هذه السّمات جعلت من التضخّم في وطننا الكبير مسألةً سياسيةً في الجوهر، إذ ترتبط بتوزيع الثروة وِفق هوى السلطة أكثر من ارتباطها بصرامة الإنتاج وعدالة تحقيقه. عندما تنهج الدّولة أسلوب توسيع الإنفاق العام لضمان الولاءات، فسيؤدّي ذلك إلى ازدياد الكتلة النقديّة المتداولة من دون أن يُقابلها توسّعٌ في العرض السلعي، وارتفاع الأسعار، وتعمّق الفوارق الطبقية بين المحظوظين من الرّيع وبين مختلف فئات المجتمع.
ولمّا كان الرّيع يولّد إحساسًا زائفًا بالثراء والميل إلى الاستعراض، جنحت الحكومات العربية إلى تبنّي سياسة إنفاقٍ موسّعٍ وتمويل العجز بالاستدانة أو بطباعة النقود. وبذلك، تحوّل التضخّم إلى وسيلةٍ خفيّةٍ للجباية وتآكل القدرة الشرائية وزيادة معدّلات البطالة. وعليه، أصبحت ازدواجية الرّيع والتضخّم لا تعدو أن تكون شكلًا من أشكال العنف الاقتصادي ضدّ الشعوب العربية، ولا تخرج عن كونها آليةً رهيبةً لإعادة الهيمنة والاستبداد مُتستّرةً عبر مُبرّر "الخلل المالي العابر".
(خاص "عروبة 22")

