تعود إلى الواجهة طموحات إثيوبيا في الوصول إلى البحر، حيث يتبنّى رئيس حكومتها آبي أحمد، استراتيجيةً تتمحور حول ما يصفه بـ"تصحيح الخطأ التاريخي"، بعدما فقدت بلاده منفذها البحري، و"الحقّ الطبيعي" منذ انفصال إريتريا عام 1993.
وفي تذكيرٍ ضمنيّ بالحرب الطاحنة التي خاضتها الدولتان ما بين عامَيْ 1998 و2000، وخلّفت عشرات الآلاف من القتلى، رفع وزير الخارجية الإثيوبي وتيرة التوتّر باتهامه إريتريا بدعم المعارضة وإنشاء تحالفات مسلّحة، في تلميحٍ إلى إمكانية إشعال حرب جديدة، كمؤشر اقتراب إثيوبيا عمدًا من الخطوط الحمراء، بهدف خلق مبرّر مسبق لغزو إريتريا.
ووفقًا لوزارة الإعلام الإريترية، فإنّ النظام الإثيوبي يُقامر بسلام المنطقة من أجل البقاء السياسي لتبرير أجندته الحربية، عبر التهديد على مدى العامَيْن الماضيَيْن بالاستيلاء على موانئ إريتريا.
وفي محاولةٍ لتعويض الشعور بالحرمان الجغرافي، اندفع نظام آبي أحمد ومسؤولوه العسكريون في حملةٍ تستهدف الوصول إلى البحر، عبر ما تصفه أسمرة بمغامرة جيوسياسية متهوّرة.
يتهم وزير الإعلام الإريتري يماني مسقل جارته إثيوبيا بالتلويح بأجندة وهمية، بينما تغرق في أزمات اقتصادية وصراعات داخلية دامية، ما يهدّد استقرار إثيوبيا والمنطقة بأسرها.
الوصول إلي البحر
سابقًا، اعتبر رئيس الوزراء الإثيوبي، أنّ افتقاد إثيوبيا للوصول إلى البحر "تهديد وجودي"، و"الحدّ الطبيعي" للبلاد، ملوّحًا بإمكانية اللجوء إلى القوة إذا باءت الوسائل السلمية بالفشل، حيث أقام عرضًا عسكريًا، في تأكيدٍ على الاستعداد لاستخدام القوة كخيارٍ أخير.
وتبادل الطرفان التحشيد العسكري وقرع طبول الحرب، بعدما أمرت إريتريا بالتعبئة العسكرية الشاملة، بينما نشرت إثيوبيا قواتٍ باتجاه الحدود، وسط تحذيرات من احتمال اندلاع الحرب.
ومن شأن تجدّد الاشتباكات بين اثنَيْن من أكبر جيوش أفريقيا، إنهاء التقارب التاريخي الذي فاز بسببه آبي بجائزة "نوبل للسلام" عام 2019، كما سيهدّد بكارثة إنسانية في منطقة تعاني أصلًا من تداعيات الحرب في السودان، وفقًا لوكالة "رويترز".
وأكد قرار سابق للأمم المتحدة الحاجة المشروعة لإثيوبيا للوصول إلى البحر، لكنّه لم يمنحْها ترخيصًا للتوسّع، بعدما ميّز بوضوح بين حقّ العبور المشروع عبر التفاوض، والاستيلاء على أراضي الغير.
بتدشينها رسميًا سدّ النهضة، كأكبر سدّ لتوليد الطاقة في أفريقيا، في احتفالية ضخمة رفعت شعار "الصعود الجيوسياسي"، تُجادل إثيوبيا ثاني أكبر دولة أفريقية بعدد سكان يبلغ 120 مليون نسمة، بعدم تسجيل اضطرابات كبيرة في تدفّق النيل، وتعتبر السدّ رمزًا للوحدة الوطنية وسط صراعات داخلية أودت بحياة 600 ألف شخص في تيغراي حتى 2022. من هذه الزاوية، يشكّل السدّ مصدر فخر واعتزاز لأديس أبابا، وموضع إجماع نادر الحصول في بلادٍ تشهد صراعات داخلية دامية.
وخلال زيارته لمجمع "أيرو آبي" لتصنيع الطائرات المسيّرة، طالب آبي أحمد قواته العسكرية بضرورة الجاهزية لمواجهة تهديدات خارجية محتملة، في ظلّ التوتّرات القائمة مع جيرانه.
واستمرارًا لتوظيف الجيش، كضامن للاستقرار الداخلي، ورسالة ردعٍ للخارج، اعتبر المشير بيرهانو جولا، رئيس أركان الجيش الإثيوبي، أنّه يمثل "الحصن الأخير لحماية السيادة".
التحرّك المصري المضاد
وكان بيرهانو قد رأى في نشر قواتٍ مصريةٍ في الصومال، تهديدًا لأمن إثيوبيا القومي، بينما عكس السفير الإثيوبي في الصومال سليمان ديديفو، الاستياء من وجودها وعدم الشعور بالتهديد والارتياح.
لكنّ مصر، في المقابل، بدأت عمليًا في تفعيل اتفاقها العسكري مع الصومال العام الماضي، والذي يسمح بتمركز نحو 10 آلاف جندي مصري هناك، في خطوةٍ ستُعيد تشكيل ديناميكيّات الأمن الإقليمي في ظلّ تنافس أوسع على النفوذ.
وعلى الرَّغم من تمسّكها بالمسار الديبلوماسي وتفاديها القيام بأعمال انتقامية مباشرة ضدّ إثيوبيا، لم تستبعد مصر الخيار العسكري، وعزّزت تحالفاتها مع دول البحر الأحمر، لمراقبة أي تمدّد إثيوبي.
وأبقت مصر على خيار الحرب قائمًا، عبر تأكيد حقّها في اتخاذ التدابير كافّة المكفولة بموجب القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، دفاعًا عن مصالحها الوجودية، وتجاهلت عمدًا التعليق على حضور رؤساء كينيا والصومال وجنوب السودان لافتتاح السدّ. ووفقًا لمسؤولٍ مصري لـ"عروبة 22": "لكلّ دولة الحقّ في البحث عن مصالحها كما تعتقد، المهم هو الإطار الاستراتيجي العام".
وفي مواجهة الطموحات الإثيوبية، التي تهدّد مستقبل حياة 250 مليون نسمة في المنطقة، لم يعد سباق النفوذ بين مصر وإثيوبيا مجرّد مناوشة سياسية، بل سباق جيوستراتيجي للاحتواء، ومحاولة تفادي الانزلاق إلى حربٍ تهدّد استقرار واحدة من أكثر البقاع حساسيةً في العالم.
ثمّة اختبار حقيقي، لتقاطع الأمن القومي العربي مع المصالح الدولية، إذ تتواجد الولايات المتحدة لأهداف أمنية، والصين بمشاريع اقتصادية وعسكرية، وتتنافس تركيا والخليج على الموانئ والتحالفات، ما يجعل القرن الأفريقي ساحة تجاذب واسعة.. وهو ما تعيه القاهرة سياسيًا وعسكريًا!.
(خاص "عروبة 22")