اقتصاد ومال

الاقتصادُ العَرَبيُّ وَفَخُّ الدّخْلِ المُتَوسّط (2/2)

عطفًا على الجزء الأول من هذا المقال، نَوَدُّ أَنْ نُضيفَ مِثالَيْنِ تَحْذيريَيْن من "فخ الدخل المتوسط": الإمارات وَلُبْنان.

الاقتصادُ العَرَبيُّ وَفَخُّ الدّخْلِ المُتَوسّط (2/2)

الإِماراتُ دَوْلَةٌ ذاتُ دَخْلٍ مُرْتَفِع، وَبِالتّالي لَيْسَتْ مُطالَبَةً بِاللَّحاقِ الاقْتِصاديِّ بِالمَعْنى التَّقْليدِيّ، إِلّا أَنَّ نَصيبَ الفَرْدِ مِنَ النّاتِجِ المَحَلّيِّ الحَقيقيِّ لا يَزالُ يَجِبُ أَنْ يَنْمُوَ بِمُعَدَّلٍ ثابِتٍ يَتَراوَحُ ما بَيْنَ 1 وَ2%. وَعلى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ الإِماراتِ أَصْبَحَتْ نَموذَجًا لِلنُّمُوِّ النّاجِح، لَيْسَ فَقَطْ في العالَمِ العَرَبِيّ، بَل على مُسْتَوى العالَم، إِلّا أَنَّ نَصيبَ الفَرْدِ مِنَ النّاتِجِ المَحَلّيِّ الحَقيقيِّ تَراجَعَ مِنْ 43,023 دولارًا إلى 42,512 دولارًا ما بَيْنَ 2014 وَ2024.

وَيَرْجِعُ هَذا التَّراجُعُ لِسَبَبَيْنِ رَئِيسِيَّيْن: أَوَّلا، الضُّغوطُ السُّكّانِيَّةُ المُرْتَفِعَة، حَيْثُ ارْتَفَعَ عَدَدُ السُّكّانِ مِنْ 8 مَلايينَ إلى 11 مِليونَ نَسَمَة، وَثانِيا، وَرُبَّما الأَهَمّ، النُّمُوُّ القائِمُ على التَّراكُمِ الواسِع، أَيِ الاعْتِمادُ على العِقاراتِ وَرَأْسِ المالِ وَالعَمالَةِ التَّقْليدِيَّة، بَدَلًا مِنَ التَّراكُمِ المُكَثَّفِ الذي يَشْمَلُ التِّكْنولوجْيا المُتَقَدِّمَةَ وَرَأْسَ المالِ وَالعَمالَةَ الماهِرَة.

الاقتصاد العربي عالق في منتصف سلّم توزيع الدخل

هَذا لا يَعْني أَنَّ الإِماراتِ لَمْ تُحَقِّقْ إِنْجازاتٍ كَبيرَة، فَالعَكْسُ صَحيح، وَلَكِنَّ النُّقْطَةَ الجَوْهَرِيَّةَ هِيَ أَنَّ عَمَلِيَّةَ التَّقارُبِ الاقْتِصاديِّ لَمْ يَتِمَّ دَعْمُها بِالكامِلِ بَعْدُ بِالأُسُسِ الاقْتِصادِيَّةِ اللّازِمَة. وَمِنَ الإِنْصافِ القَوْلُ إِنَّ صُنّاعَ القَرارِ في الإِماراتِ يَبْدونَ وَاعينَ لِهَذا التَّراجُع، وَهُمْ يَعْمَلونَ على وَضْعِ سِياساتٍ لِمُعالَجَتِه، وَلا سِيَّما في مَجالِ تِكْنولوجْيا الذَّكاءِ الاصْطِناعِيّ.

أَمّا في حالَةِ لُبْنان، فَالقِصَّةُ أَكْثَرُ مَأساوِيَةً بِكَثير. نُلاحِظُ مِنَ الجَدْوَلِ أعلاه أَنَّ نَصيبَ الفَرْدِ مِنَ النّاتِجِ المَحَلّيِّ الحَقيقيِّ تَراجَعَ مِنْ 7,830 دولارًا إلى 5,834 دولارًا ما بَيْنَ 2014 وَ2024[1]، وَالمَأْساوِيُّ في الأَمْرِ هُوَ أَنَّ هَذا التَّراجُعَ لَمْ يَكُنْ لِيَحْدُثَ أَبَدًا.

في حَلَقاتِ النُّمُوِّ السّابِقَة، تَمَكَّنَتْ مَجْموعَةٌ صَغيرَةٌ مِنَ الدُّوَلِ الصَّغيرَة[2]، مِثْلَ سِنْغافورَة، هونْغ كونْغ، كورْيا الجَنوبِيَّة، تايْوان، إِسْرائيل، ماكاو، وَأوروبّا، مِنَ الِانْتِقالِ إلى فِئَةِ الدُّوَلِ ذاتِ الدَّخْلِ المُرْتَفِعِ في فَتَراتٍ زَمَنِيَّةٍ مُخْتَلِفَة، بَدْءًا مِنْ نَصيبِ الفَرْدِ مِنَ النّاتِجِ الذي كانَ قَريبًا مِنْ مُسْتَوى لُبْنانَ عامَ 2014، وَذَلِكَ بِتَحْقيقِ مُعَدَّلاتِ نُمُوٍّ سَنَوِيَّةٍ تَزيدُ عَنِ 4%.

عِنْدَما انْتَهَتِ الحَرْبُ الأَهْلِيَّةُ اللُّبْنانِيَّةُ عامَ 1992، كَانَ يُقالُ إِنَّ لُبْنانَ الجَديدَ سَيُصْبِحُ "سِنْغافورَةَ الشَّرْقِ الأَوْسَط"، وَبِصَراحَة، لِمَ لا؟! فَقَدْ كانَ لَدى البِلادِ المَواهِبُ وَالمَوارِدُ وَالمَوْقِعُ الجُغْرافِيُّ المُناسِبُ لِلِانْضِمامِ إلى هَذِهِ الدُّوَلِ القَليلَةِ المُخْتارَة. غَيْرَ أَنَّ ذَلِك، وَلِلأَسَف، لَمْ يُكْتَبْ لَهُ أَنْ يَتَحَقَّق، بَعْدَما جَرى تَقْويضُهُ بِفِعْلِ سِياسِيّينَ وَميليشْياتٍ وَجيرانٍ سَيِّئين.

أحد المسارات التي قد تساعد هو جمع الدول نحو "وسط مُرضٍ" عبر المزيد من التكامل الاقتصادي والمؤسسي

خِتامًا، يَتَّضِحُ أَنَّ الاقْتِصادَ العَرَبِيَّ عالِقٌ في مُنْتَصَفِ سُلَّمِ تَوْزيعِ الدَّخْل. غَيْرَ أَنَّ هَذا المَوْقِعَ الوَسَطِيَّ يُخْفي وَراءَهُ تَنَوُّعًا واسِعًا: فَمِنْ جِهَةٍ، تَرْزَحُ الدُّوَلُ مُنْخَفِضَةُ الدَّخْلِ تَحْتَ وَطْأَةِ ضَعْفِ الحَوْكَمَةِ وَعَدَمِ الاسْتِقْرارِ السِّياسِيّ؛ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرى، تَسْعى الدُّوَلُ مُرْتَفِعَةُ الدَّخْلِ إلى الحِفاظِ على نُمُوٍّ ثابِتٍ مَدْفوعٍ بِالتِّكْنولوجْيا.

وَإلى جانِبِ ذَلِك، ثَمَّةَ دُوَلٌ تَقَعُ قَريبًا مِنَ الوَسَطِ وَتُحاوِلُ التَّحَرُّرَ مِنْ هَذا المَأْزِقِ عَبْرَ سِياساتٍ رَشيدَةٍ وَإِصْلاحاتٍ جِدِّيَّة. لِذَلِك، فَإِنَّ الصّورَةَ لَيْسَتْ قَاتِمَةً بِالكَامِل، على الرَّغْمِ مِنَ الفَوْضَى السِّياسِيَّةِ الظَّاهِرَةِ وَحالَةِ الانْحِباسِ الاقْتِصادِيّ. وَأَحَدُ المَساراتِ التي قَدْ تُساعِدُ في هَذا الإِطارِ هُوَ جَمْعُ هَذِهِ الدُّوَلِ نَحْوَ "وَسَطٍ مُرْضٍ" عَبْرَ المَزيدِ مِنَ التَّكامُلِ الِاقْتِصاديِّ وَالمُؤَسَّسِيّ، خُطْوَةٌ لَيْسَتْ سَهْلَة، لَكِنَّها تَسْتَحِقُّ عَمَلًا جادًّا!.

لقراءة الجزء الأول


[1] بَدَأَتِ الأَزْمَةُ اللُّبْنانِيَّةُ تَتَكَوَّنُ حَوالَيْ عامِ 2014 مَعَ عَجْزٍ شَديدٍ في ميزانِ المَدْفوعات، لِتَنْفَجِرَ بَعْدَ ذَلِكَ عامَ 2019 إلى أَزْمَةٍ رُباعِيَّةٍ تَشْمَلُ الحَوْكَمَةَ وَسِعْرَ الصَّرْفِ وَالمَصارِفَ وَالدَّيْن، وَلا تَزالُ هَذِهِ الأَزْمَةُ بِلا حَلٍّ حَتَّى اليَوْم.
[2] أَمّا بِالنسبةِ لِلِاقْتِصاداتِ الكُبْرى، فَرُبَّما الدَّوْلَةُ الوَحيدَةُ التي حَقَّقَتْ إِنْجازًا مُماثِلًا هِيَ الصّين.
(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن