العرب وتحديات الذكاء الاصطناعي

العالم العربي.. وسباق الذكاء الاصطناعي (2/2)بين الطموحات التكنولوجية وفاتورة الطاقة!

يشهد العالم العربي عمومًا والخليج العربي خصوصًا سباقًا حثيثًا لامتلاك بنية تحتية عملاقة للذكاء الاصطناعي، من مراكز بيانات بقدراتٍ ضخمةٍ إلى جامعات وبرامج مواهب وشراكات عابرة للقارات. لكنّ وراء وهج الطموح تكمن أسئلةٌ صعبةٌ حول الكهرباء والمياه، وتسعير الطاقة والإعانات، وقدرة الشبكات على تحمّل موجات الاستهلاك المقبلة. بين رهانٍ على تنويع الاقتصاد وقلقٍ من فاتورةٍ بيئيةٍ وماليةٍ، نُناقش هنا فرص السباق ومخاطره، ونعرض خريطة طريق عمليّة للموازنة بين الابتكار والاستدامة.

العالم العربي.. وسباق الذكاء الاصطناعي (2/2)
بين الطموحات التكنولوجية وفاتورة الطاقة!

لا يكمن التحدّي الأكبر في مجال الذكاء الاصطناعي في تشييد المراكز، بل في استدامة تشغيلها من دون تحميل المجتمع "فاتورة صامتة". لذلك تبدأ خريطة الطريق بسياساتٍ تستند إلى تَعرِفات تفاضلية ذكية تفصِل بوضوح بين الاستعمال الصناعي الشديد الكثافة – ومن ضمنه مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي – وبين الشرائح المنزلية الحسّاسة للمداخيل. يمكن اعتماد عقود شراء بعيدة الأجل للكهرباء تربط السعر بمؤشّرات الأداء البيئي والتقني: فاعلية استخدام الطاقة، وفاعلية استخدام المياه، ونسبة الطاقة المتجدّدة في المزيج. ويُحفَّز المشغّلون على التحوّل إلى التبريد بالسوائل الصناعية، واستخدام مياهٍ مُعالَجةٍ بدلًا من المياه العذبة حيثما أمكن، وربط رسوم المياه بنِسَبِ إعادة الاستخدام والالتزام بمعايير المُنتَج الجانبي الملحي الناجم عن عمليات التحلية.

توحيد منظومات الترخيص المهني لشهادات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني يسمح بالتنقّل السلس للخبرات

ثانيًا، حان وقت التفكير بتأسيس "أحزمة حوسبة - طاقة" إقليمية بدل الانتشار العشوائي. تُقَام هذه الأحزمة على تخوم مصادر الغاز وطاقة الشمس والرياح، وتُجهَّز بمحطّات تحليةٍ تعمل بالطاقة المتجدّدة، وخطوط نقل عالية الجهد، ومرافق لإعادة تدوير المياه، مع اتفاقيات تزويد مشتركة بين أكثر من دولة خليجية. ذلك يُقلِّل من الضغط المحلّي على الشبكات الحضرية ويؤمّن وُفُورَ الحجم (انخفاض تكلفة إنتاج الوحدة الواحدة كلّما ازداد حجم الإنتاج)، ويُتيح جدوَلة الأحمال بين أقاليم زمنية ومناخية مختلفة. لذلك، يمكن ربط هذه الأحزمة بقدرات رياحية مغاربية ليلية وشمسية خليجية نهارية، فتَنشَأُ سوق عربية تُوازِن بين مصادر الطاقة وتُخفّض البصمة الكربونية للحوسبة.

ثالثًا، لا بدّ من تطوير سلسلة قيمة محلّية للرّقائق والمنصّات. تُرسي المملكة العربية السعودية، عبر مبادرات مثل "هيوماين"، ودولة الإمارات العربية المتحدة، عبر "إم جي إكس"، مثلًا، ومعًا من خلال منظومات الشراكة المؤسّسة مع مُصنّعي الرقائق ومزوّدي خدمات السحابة، أُسُسًا لتقليل مخاطر سلاسل التوريد وتعميق المحتوى المحلّي. إضافةً إلى ذلك، يسرّع دعم المسرّعات وصناديق رأس المال المتخصّصة تحويل البحوث إلى منتجات، ويوفّر لشركات الذكاء الاصطناعي العربية مسارات وصولٍ إلى الأسواق الحكومية والصناعية داخل الخليج العربي وخارجه.

يمكن تقديم حوافز ضريبية إلى المشاريع التي تلتزم بنسبة متصاعدة من الطاقة المتجدّدة

رابعًا، يُستكمَل ذلك بحوكمةٍ تنظيميةٍ متوافقةٍ مع الاستراتيجيات الوطنية للذكاء الاصطناعي في دولٍ عربيةٍ عدّة (الإمارات، السعودية، قطر، مصر، الأردن). وهذا يشمل أطرًا للاستخدام المسؤول، وحماية الخصوصية والبيانات، ومكافحة الانحياز الخوارزمي، وإدارة مخاطر الأمن السيبراني. كذلك، تُراجَع سياسات الإعانات بحيث لا تُحفِّز استهلاكًا غير كفؤ، بل تُكافِئ الأداء والكفاءة والابتكار. ويمكن، مثلًا، تقديم حوافز ضريبية مؤقتة إلى المشاريع التي تلتزم بنسبةٍ متصاعدةٍ من الطاقة المتجدّدة وتُحقِّق مستويات جيدة في فاعلية استخدام الطاقة وفاعلية استخدام المياه، في مقابل تعرفات أعلى تُفرَض على العقود التي لا تلتزم بهذه المعايير.

خامسًا، تُصبح المواهب حجر الزاوية. فجامعات مثل جامعة "محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي"، و"برامج التدريب الوطنية" في السعودية وقطر، قادرة على سدّ فجوةٍ حرجةٍ في عديد علماء البيانات ومهندسي البنية التحتية. ويُستحسَن توحيد منظومات الترخيص المهني لشهادات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني بين دول مجلس التعاون الخليجي ومن ثم الدول العربية ككلّ، بما يسمح بالتنقّل السلس للخبرات ويُنشِئ سوق عمل خليجية ولاحقًا عربية موحّدة للمتخصّصين. كذلك، يجب دفع النماذج اللغوية العربية المفتوحة والمغلقة إلى الاستخدام في قطاعات الحكومة والصحة والتعليم، بما يولّد طلبًا محليًا مستدامًا يبرّر الاستثمار في البنية التحتية الثقيلة.

سادسًا، فتح نوافذ التعاون العربي - العربي خارج الخليج: ربط أحزمة الحوسبة بموارد الغاز المصري والعراقي، وتبادل الطاقة مع المملكة المغربية والجمهورية التونسية عبر شبكات حوض البحر المتوسط، وإتاحة منصّات سحابية عربية تخدم أسواق المشرق وشمال أفريقيا. هكذا يتحوّل السباق الخليجي إلى قاطرةٍ عربية.

لربط مسرّعات الذكاء الاصطناعي بمشروع عربيّ أوسع للنموّ المُوجَّه بالتكنولوجيا

أخيرًا، ليس تمويل الابتكار ترفًا، بل شرط للاستدامة. تُظهِر الأرقام الإقليمية الحديثة أنّ الذكاء الاصطناعي استحوذ على حصةٍ متناميةٍ من الصفقات، وأنّ 322 صفقةً موّلت شركات متخصّصة في الذكاء الاصطناعي خلال 2022-2024 بحجمٍ يقارب 660 مليون دولار. إذا اقترنت هذه الديناميكية بمسارات شراء حكومية واضحة وبمقاييس أداء بيئية صارمة، لن تكون مراكز البيانات "عبئًا طاقويًا"، بل مُسرّعًا اقتصاديًا يُعزِّز تنويع الدخل ويوفِّر وظائف نوعيّة ويُحسِّن الخدمات العامة.

في نهاية المطاف، يمكن للخليج والعالم العربي الإمساك بالعصا من منتصفها عبر تسعيرٍ ذكيّ وشفافٍ، وإقامة مُجمَّعات طاقة - حوسبة إقليمية، وإنشاء سلسلة توريد ورأس مال بشري. بهذه العناصر، يتحوّل السباق إلى فرصةٍ مُضاعفة: تعميق التنويع الاقتصادي مع تقليص الفاتورة البيئية والاجتماعية، وربط مسرّعات الذكاء الاصطناعي بمشروعٍ عربيّ أوسع للنموّ المُوجَّه بالتكنولوجيا.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن