فلسطين... القضية والبوصلة

نهاية الحرب.. لا تعني السلام!

الكلّ يريد نهاية الحرب في الشرق الأوسط وفي غير مكان، وبأي شكلٍ من الأشكال، ليس بسبب رغبة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ذلك، بل باعتبارها إنجازًا ديبلوماسيًا ضخمًا في العلاقات الدولية، وانسجامًا مع عمل الشرعة الدولية في حفظ الأمن والسلم الدوليَيْن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ومن هنا السعي المُضني لإنهاء الحروب ومآسيها وآلامها، وإطفاء الحرائق المشتعلة في أوروبا - أوكرانيا، وآسيا، والقرن الأفريقي.

نهاية الحرب.. لا تعني السلام!

المتفائلون يعتقدون أنّ مسيرة السلام تُمثّل نقطةً مضيئةً في الوعي السياسي الأميركي، وأنّها قد تكون بداية مرحلةٍ جديدةٍ في الشرق الأوسط. لكنّ الآخرين يخشون أن تكون مجرّد حركةٍ رمزيةٍ لن توقف مسار التغيير التسلّطي الإسرائيلي في المنطقة.

منذ الإعلان عن "صفقة القرن 2020"، يجري الحديث عن السلام في الشرق الأوسط. لكن وعلى الرغم من تلك الاتفاقات "الإبراهيمية" لا يزال السلام بعيد المنال. فالقضية الفلسطينية، التي كانت يومًا في قلب الصراع العربي - الإسرائيلي لم تُحلّ بعد، ولا تبدو قريبةً من الحلّ. والفلسطينيون يرفضون الاتفاقات الجديدة التي يعتبرونها "خيانةً" لدمائهم وتضحياتهم على مدى قرنٍ كاملٍ، ولأنّها تتجاهل مطالبهم الجوهرية بإقامة دولةٍ مستقلّة قبل التطبيع مع إسرائيل.

السلام الحقيقي في الشرق الأوسط لا يمكن أن يتحقّق ما لم يُـمنح الفلسطينيون حقوقهم السياسية المشروعة

من وجهة نظر الفلسطينيين، فإنّ ما يحدث هو تطبيعٌ مجانيّ يُكافِئ إسرائيل من دون أن يفرض عليها أيّ تنازل سياسي أو إقليمي. وعلى الرَّغم من أنّ ترامب ومستشاريه قدّموا هذه الاتفاقات على أنّها خطوة نحو الاستقرار الإقليمي، فإنّها في الواقع قد تُعمّق خطوط الانقسام ما بعد حرب غزّة. فإسرائيل تزداد ثقةً في قدرتها على تجاوز الملف الفلسطيني، في حين يشعر الفلسطينيون بالعزلة والخذلان أكثر من أي وقتٍ مضى.

ويبقى السؤال الكبير: هل يمكن لإسرائيل والفلسطينيين في نهاية المطاف العودة إلى طاولة المفاوضات في الوقت الراهن؟.

يبدو أنّ هذا الاحتمال بعيد، خصوصًا مع استمرار الحرب بأشكالٍ مختلفةٍ، واستمرار الاستيطان وتوسّعه في الضفّة الغربية، والانقسام الداخلي الفلسطيني بين السلطة الفلسطينية في "رام الله"، وحركة "حماس" في غزّة. قد تكون هذه الاتفاقات أساس المشهد الديبلوماسي في المرحلة المقبلة، لكنّها لن تقترب من معالجة جذور الصراع. فالسلام الحقيقي في الشرق الأوسط لا يمكن أن يتحقّق ما لم يُمنح الفلسطينيون حقوقهم السياسية المشروعة، وما لم يتوقّف الاحتلال، وما لم تتحقّق المُساءلة القانونية عن جرائم الإبادة التي ارتكبها الاحتلال في غزّة على مدى عامَيْن وأكثر، فما بعد الحرب سيضع بوضوح بنيامين نتنياهو وحكومته في موضع المُساءلة السياسية والقانونية.

المجتمع الإسرائيلي يعيش حالةً من الانقسام بين الرغبة في الانتقام من "حماس" والرغبة في إنهاء الحرب

بحسب خبراء في القانون الدولي، لقد حان وقت الحساب بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي قد يضطرّ إلى الردّ على فشله الأمني في أحداث "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. ويتحدّث الكثيرون عن "نهاية عهد" نتنياهو، الذي بات أكثر عزلةً حتى بين حلفائه المقرّبين.

لذلك، ومع اقتراب نهاية الحرب في غزّة، سيجد نتنياهو نفسه في موقفٍ صعبٍ للغاية. فالرأي العام الإسرائيلي، الذي صُدم بهجوم "حماس"، يُطالب الآن بمحاسبةٍ واضحةٍ على هذا الفشل الأمني الكبير. وتشير استطلاعات الرّأي إلى أنّه لو جرت الانتخابات اليوم، فإنّ الائتلاف الحاكم الحالي سيفقد أغلبيّته في الكنيست، على الرَّغم من الزّخم الأميركي الذي بات تأييده لحكومة اليمين المُتطرّف مُقيّدًا.

لقد أثبتت الحرب أنّها لحظة فاصلة في السياسة الإسرائيلية، إذ كشفت هشاشة التحالفات الداخلية والتناقضات في إدارة الحكومة للأزمة. المجتمع الإسرائيلي يعيش حالةً من الانقسام بين الرغبة في الانتقام من "حماس" والرغبة في إنهاء الحرب التي أرهقت الكيان الإسرائيلي بشريًا واقتصاديًا.

خطة السلام الأميركية ترتبط بمشروع ترامب وطموحه في أن يُحدث تحوّلًا جوهريًا في طبيعة النظام الشرق أوسطي

إعادة تشكيل الهوية الإسرائيلية أصبحت موضوعًا رئيسيًّا للنقاش، على ضفّتَيْ الحرب، فالكثيرون يرون أنّ الأزمة الحالية قد تؤدّي إلى بروز نخبةٍ سياسيةٍ جديدةٍ، وربّما إلى نهاية مسيرة نتنياهو السياسية الطويلة. ومع أنّ نتنياهو حاول الظهور بمظهر القائد القوي الذي يدافع عن أمن إسرائيل، ويخوض حروبًا على جبهاتٍ مُتعدّدةٍ، فإنّ الاتهامات تُلاحقه بشأن الإهمال وسوء التقدير، وكذلك الأمر بالنسبة لقيادة حركة "حماس" ومستقبلها السياسي في إدارة اليوم التالي في غزّة.

المرحلة الأولى من خطة ترامب في "شرم الشيخ" نجحت حتى الآن، لكنّ الأصعب لم يأتِ بعد للإشادة بخطّة السلام الأميركية، وقد تكون بداية مرحلةٍ مُعقّدةٍ ومؤقتة، إذ تصبح الأمور غير مؤكدةٍ بعد مرحلة إطلاق سراح الرهائن. والخطة ترتبط بمشروع رجلٍ واحدٍ هو الرّئيس ترامب، ولصالح تسلّطه السياسي وطموحه في أن يدخل التاريخ ليس فقط كأحد أكثر الرؤساء إثارةً للجدل، بل كمَن يُحدث تحوّلًا جوهريًا في طبيعة النظام الشرق أوسطي نفسه، حيث يريد إحراز تطبيع كامل للعلاقات بين إسرائيل والسعودية في عمليةٍ سياسيةٍ تحمل معاني رمزيةً عميقة لكنّها تعبّر أيضًا عن صدمةٍ في الضمير الجماعي للعرب والمسلمين، ولن تتحقّق إلّا إذا كانت تعني نهاية الحرب على الفلسطينيين والإقرار بحقوقهم المدنية والسياسية، وأثمرت نتائج في رفض العالم مشروع العنصريّة اليمينيّة اليهوديّة المتطرّفة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن