بعد الحرب العالمية الثانية، انقسم العالم إلى معسكرين: غربي بقيادة أمريكية، وشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي. وتبعاً لذلك نشأت منظومات اقتصادية، وأحلاف عسكرية، وتكتلات سياسية دولية. وقد وضع مشروع مارشال لإعمار أوروبا وحلف الناتو، المدماك لتأسيس السوق الأوروبية المشتركة، ولاحقاً الاتحاد الأوروبي، يقابله حلف وارسو بقيادة سوفييتية. والأخير انهار مع سقوط حائط برلين، ونهاية الحرب الباردة في أواخر الثمانينات، من القرن الماضي.
وبرزت أثناء حقبة الحرب الباردة كتلة ثالثة، هي مجموعة دول الانحياز. وكان الدافع لتأسيسها، الوعي بالمخاطر الناجمة عن الانقسام الحاد بين الشرق والغرب، واحتمالات اشتعال حرب نووية مدمرة، تهدد وجود الجنس البشري. وقد أدى بروز كتلة الحياد الإيجابي، لحضور قوي، لدول العالم الثالث حديثة الاستقلال، على المسرح السياسي الدولي.
وتبعاً للانقسام بين الشرق والغرب، انقسمت البلدان العربية، منذ بداية الخمسينات من القرن المنصرم، بين صداقة بعضها للغرب، وأخرى للشرق، رغم أن معظمها ارتبط بكتلة عدم الانحياز، وبميثاق باندونغ الذي تضمن مبادئ هذه الكتلة. ولم يحل اندلاع الحرب الباردة، وانقسام البلدان العربية بين مؤيد ومعارض لأحد أقطابها، دون وجود قواسم مشتركة بينها. فقد ساند العرب جميعاً، أشقاءهم في معارك الاستقلال عن الهيمنة الأجنبية. ووقفوا على اختلاف توجهاتهم السياسية، يساندون القاهرة في مواجهة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. ومع الجزائر في معركة استقلالها عن الاستعمار الفرنسي. كما ساندوا المغرب وهي تواجه الاحتلال. وحين وقع العدوان الفرنسي على قاعدة بنزرت التونسية، ندد القادة العرب، بذلك العدوان.
وبالمثل تضامن العرب مع مصر والأردن وسوريا، لإزالة آثار عدوان الخامس من يونيو/ حزيران، عام 1967. ودعمت البلدان النفطية بقوة، دول المواجهة لتحقيق ذلك. وفي معركة العبور عام 1973، كان التضامن العربي واسعاً مع مصر وسوريا، متخذاً أشكالاً مختلفة. لكن هذه المواقف التضامنية لم ترتق إلى تحقيق تكامل سياسي واقتصادي وثقافي بين الأقطار العربية، بل تمت في صيغة نخوة، أثناء معارك العرب الملحمية.
دول الخليج العربية، وحدها سارعت، مع اشتعال الحرب العراقية- الإيرانية عام 1980 لتشكيل مجلس التعاون الخليجي. ورغم أن مجالس عربية مماثلة أعلن عن تشكيلها لاحقاً، كمجلس التعاون المغاربي، الذي ضم بلدان المغرب العربي، ومجلس التعاون العربي، الذي ضم العراق ومصر والأردن واليمن، لكن سرعان ما طواها النسيان.
وفي نهاية الثمانينات من القرن الماضي، بعد انتهاء الحرب الباردة، تربعت أمريكا، كقطب أوحد على عرش الهيمنة الدولية. وتزامن هذا الحدث، مع الغزو العراقي للكويت، ليتمزق التضامن العربي مرة أخرى، فينقسم العرب بين أغلبية تضامنت مع الكويت، وبلدان أخرى، وصفت بدول الضد. وهكذا كانت القضايا السياسية تفعل باستمرار فعلها في إعاقة تحقيق أي نوع من التكامل العربي والوحدة.
وفي عام 2003، تم الاحتلال الأمريكي لعاصمة العباسيين، بغداد، بعد حصار قاس للعراق استمر قرابة ثلاثة عشر عاماً، ولتسقط أرض السواد، في بحر من الفوضى، لا تزال آثارها ماثلة حتى يومنا هذا. وليس من شك، في أن تفرّد قطب واحد، في الهيمنة على السياسة الدولية، هو نشاز في التاريخ الإنساني، ولذلك فإنه لم يستمر طويلاً. وكان أول تحدٍ لهذه الهيمنة، قد جاء من فرنسا، الدولة الحليفة لأمريكا، وشريكتها في حلف الناتو، حين هددت باستخدام حق النقض ضد أي قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي، يجيز لإدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن احتلال العراق.
وفي نهاية عام 2010، بدأ اندلاع عشرية الدم، لتسهم في تفتيت المفتت، وتمزيق الممزق، وانتشار الفوضى في عدد آخر من الأقطار العربية. ولا شك في أن هذه الأحداث شكلت كوابح، لتحقيق الوحدة والتكامل العربيين.
ثم حدثت تحولات كبرى في السياسة الدولية، باكتساح التنين الصيني للأسواق العالمية، وبنائه بثبات قوته العسكرية، ويبرز كقوة اقتصادية منافسة للولايات المتحدة. وقد خرج الدب القطبي، من بياته، بقيادة فلاديمير بوتين، وبرز كقوة عسكرية منافسة للقوة العسكرية الأمريكية.
العالم الآن يعيش في مناخات مشابهة لتلك التي برزت بعد اندلاع الحرب الباردة، في مطالع الخمسينات من القرن الماضي. ومجمل الظروف التي يمر بها العالم والمنطقة، تتطلب من العرب، تحقيق قدر أكبر من التكامل والوحدة، وهو قدر لا مناص منه، في عالم يموج بالصراع والتنافس. عالم ليس فيه مكان إلا للأقوياء. والوحدة والتكامل، هما الضمانة الحقيقية، للعرب جميعاً، ليأخذوا مكانهم بجدارة وقوة في مسيرة التاريخ المتجهة إلى الأمام.
("الخليج") الإماراتية