الأمن الغذائي والمائي

افتتاح السد الإثيوبي.. ومجلس الأمن!

مع افتتاح السدّ الإثيوبي في التاسع من سبتمبر/أيلول 2025، تقدّمت مصر بمذكرة إلى مجلس الأمن تُخطره فيها بأنّ هذا السدّ خلافي وغير متفقٍ عليه، وأنّه نتاج تصرفات أُحادية من إثيوبيا تهدف إلى الإضرار بمصر والسودان، وأنّه تمّ من دون التنسيق مع شركائها في النهر. في المقابل، ردّت إثيوبيا بمذكّرة شديدة العدوانية بعيدة تمامًا عن موضوع السدّ وأضراره على دولتَيْ المصبّ، واتّهمت مصر بأنّها دأبت على إثارة الاضطرابات في إثيوبيا والعمل على أن تظلّ إثيوبيا فقيرةً حتى تستفيد مصر وحدها من مياه النيل!.

افتتاح السد الإثيوبي.. ومجلس الأمن!

الادعاء الإثيوبي بأنّ مصر تريدها دولةً فقيرةً لكي تستولي على كامل مياه النيل مردودٌ عليه بقانون الأمم المتحدة للأنهار العابرة للحدود والذي يتحدّث عن المشاركة في موارد النهر وليس فقط في المياه التي تجري بين ضفّتَيْ النهر، فموارد النهر تشمل الأمطار والمياه الجوفية والبحيرات العذبة ثم مياه مجرى النهر، وأنّ إجمالي ما يسقط على إثيوبيا من الأمطار طبقًا لتقرير "منظمة الأغذية والزراعة" لعام 2012 يبلغ 936 مليار م3 كلّ عام تُنتج مراعٍ طبيعية وأعلافًا مجانية منحت إثيوبيا ثروةً حيوانيةً تبلغ 100 مليون رأس، في حين تمتلك مصر نحو 6.5 ملايين رأس فقط تعيش على زراعة الأعلاف المُكلفة ممّا جعل مصر أكبر مستورد للقمح عالميًا بسبب منافسة الأعلاف للقمح شتاءً.

نصيب الفرد من المياه في إثيوبيا يتجاوز ضعف نصيب الفرد من المياه في مصر

تمتلك إثيوبيا أيضًا "بحيرة تانا" التي ينبع منها النيل الأزرق بحجم مياه نحو 33 مليار م3 تُستغلّ في توليد الكهرباء والزراعة ومياه الشرب، بالإضافة إلى خزّانها في بحيرة "سدّ تاكيزي" على نهر عطبرة والبالغ 9 مليارات م3، ومخزون مياه جوفية يتجاوز 10 مليارات م3، وإجمالي موارد مائية يبلغ 123 مليار م3 سنويًا طبقًا لدراسة منظمة الأغذية والزراعة نفسها.

ومن ناحية أنّ مصر تستولي على مياه النهر فإنّ قانون الأمم المتحدة للأنهار العابرة للحدود ينصّ على التوزيع العادل للمياه وليس التوزيع المُتساوي، بمعنى إذا كانت إثيوبيا تمتلك فعليًا تسعة أحواض أنهار ويضمّ كلّ حوض عشرات الروافد والفروع، فليس من العدل أن تطمع في مياه دولة النهر الواحد وبلا روافد، كما أنّ نصيب الفرد من المياه في إثيوبيا يتجاوز ضعف نصيب الفرد من المياه في مصر. هذا هو الأمر نفسه الذي دفع إثيوبيا إلى إقامة سدّها الضخم لتوليد الكهرباء مائيًا من السدّ والتضحية بعلاقات حسن الجوار مع شركاء النهر، بل واستفزازهم حيث هناك العديد من البدائل لتوليد الكهرباء سواء عبر الرياح السائدة في المرتفعات والهضاب الإثيوبية، أو الطاقة الشمسية، أو طاقة جوف الأرض  التي تتميّز بها، أو المولّدات التقليدية باستخدام الغاز الطبيعي ومشتقّات البترول من مازوت وسولار وخلافه، وفي المقابل فلا يوجد للمياه بدائل، لكنّها تركت كل بدائل توليد الكهرباء ولجأت إلى التوليد المائي وإلحاق الضرر.

الأراضي المزروعة في إثيوبيا تبلغ 35 مليون هكتار بينما لا تتجاوز مساحة الأراضي الزراعية في مصر 3.5 ملايين هكتار

ولإيضاح أنّ إثيوبيا تتمتّع بأضعاف الموارد المائية لمصر والسودان، فقد أشار تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة إلى أنّ الأراضي الزراعية المزروعة فعليًا في إثيوبيا تبلغ 35 مليون هكتار، بينما لا تتجاوز مساحة الأراضي الزراعية في مصر 3.5 ملايين هكتار، أي أنّ إثيوبيا تزرع عشرة أضعاف ما تزرعه مصر. كما أنّ مساحة الأراضي التي تؤجّرها إثيوبيا للمستثمرين لزراعة الوقود الحيويّ تتجاوز مساحة كلّ الأراضي الزراعية في مصر أي نحو 3.5 ملايين هكتار. وتتربّع إثيوبيا أيضًا على عرش الدول المصدّرة لِلَّبَنِ العضوي والمنتجات الزراعية العضوية كافّة، والتي تُزرع على الأمطار النقيّة غير الملوّثة، بينما مصر خارج هذا السياق تمامًا، بالإضافة إلى ثروةٍ حيوانيةٍ تتجاوز 16 ضعفًا مثيلاتها في مصر، ثم تدّعي أنّ مصر تستولي على مياه النهر بينما الواقع يشير إلى العكس!.

السدّ الإثيوبي يُخالف ما نصّ عليه قانون الأمم المتحدة للأنهار العابرة للحدود

تحاول إثيوبيا بعد الانتهاء من سدّ النهضة بناء ثلاثة سدود أخرى على النيل الأزرق محدودة التدفّقات بحجم لا يزيد على 50 مليار م3 سنويًا، بينما ستبلغ سعة السدود الأربعة 200 مليار م3 وهي "مندايا" (Mendaia) و"باكوأبو" (Bakoabo) و"كارادوبي" (Karadobi) بالإضافة إلى النهضة، ولكلّ منها بحيرة شاسعة لا تقلّ سعة أصغرها التخزينية عن 40 مليار م3، ما يعني أن البخر من سطح هذه البحيرات والتسرّب العميق من قيعانها سوف يُعادل حصّة مصر الحالية من مياه النيل.

أمّا من ناحية حصّة مصر من المياه ومَن حدّدها، فإنّ الذي حدّدها هو الخلق الطبيعي للنهر والانحدار لجميع الأنهار نحو دول المصبّ، ومنها إلى البحار والمحيطات، وهو ما نصّ عليه قانون الأمم المتحدة للأنهار العابرة للحدود، بأنّه لا يجوز تغييره أو تغيير توقيتات وصول المياه إلى مختلف دول النهر، والسدّ الإثيوبي يُخالف كل ذلك. فقد أخذت مصر متوسّطات معدّلات وصول المياه إليها لآخر مائتي عام ووجدت أنّ أقصاها وصل إلى 124 مليارًا وأقلّها كان 48 مليار م3 بمتوسط نحو 84 مليار م3 سنويًا وهو ما تعوّدت وصوله إليها عبر مئات السنين، وهو ما أطلق عليه قانون الأمم المتحدة "الحقوق المُكتسبة"، لأنّ الدول أقامت أنشطتها بناءً على هذا القدر من المياه الذي لا يجوز المساس به من دولٍ أخرى.

مصر بكلّ سكانها تعيش على أقل من 7% من مساحة أراضيها وتمثّل الصحاري 93% من مساحتها

يشير التاريخ إلى أنّ إثيوبيا لم تترك دولةً من جيرانها لم تعتدِ عليها، فقد دخلت في حربٍ طويلةٍ مع إريتريا لمدة 13 سنة لاحتلالها، على الرَّغم من كون إريتريا مملكةً قديمةً في التاريخ. ثم حاربت إثيوبيا دولة الصومال العربية مراتٍ عدّة، محاولةً إثبات أنّها قوة عسكرية في القرن الأفريقي واستولت على إقليم "أوغادين" الصومالي. كما أضرّت بجارتها الجنوبية كينيا بإقامتها لثلاثة سدود ضخمة على نهر "أومو" الذي يربطهما معًا، ممّا أدّى إلى قطع المياه عن شمال كينيا وتشريد نحو ربع مليون كيني نزحوا إلى الجنوب. وما زالت إثيوبيا تحتلّ منطقة القضارف الحدودية مع السودان وترفض إعادتها، ويقوم مزارعو إثيوبيا بالدخول إلى أراضي شرق السودان كلّ عام بحماية الجيش الإثيوبي لزراعة نحو مليون فدّان وحصادها ثم العودة إلى إثيوبيا.

وفي النهاية، نوضح أن الأراضي الزراعية في مصر تمثل فقط 3.5% من مساحة البلاد وتظهر المساحة الخضراء في الصور الجوية على صورة شريط ضيّق تحيطه الصحاري من كلّ جانب، وأنّ مصر بكلّ سكانها تعيش على أقل من 7% من مساحة أراضيها وتمثّل الصحاري 93% من مساحتها، فإذا كانت مصر تستولي على مياه النهر لكانت على الأقل تعيش وشعبها على ربع مساحتها!

ولكنهم للأسف بلا منطق ولا علم، ويعانون من عدوانيةٍ بشكلٍ يحتاج إلى دراسة الأسباب عبر ما طرحوه من تساؤل: لماذا تقدّمتم في مصر ولماذا تأخّرنا؟! ويظنّون أن مصر تقدّمت بسبب المياه الإثيوبية وليست المياه الربّانية، وأنّهم تأخروا بسبب تركهم لهذه المياه تذهب إلى مصر، على الرَّغم من كل ما أوضحناه من وفرةٍ مائيةٍ وزراعيةٍ للإثيوبيين.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن