تقدير موقف

مِن خُطَّةِ السَّلام.. إلى إدارةٍ أمْنِيَّةٍ لِلاحتِلال!

لا يُمْكِنُ قِراءَةُ تَجْديدِ الرَّئيسِ الأَميرْكيِّ دونالد تْرامْب الاعْتِرافَ بِسِيادَةِ إِسْرائيلَ على مُرْتَفَعاتِ الجولانِ بِوَصْفِهِ مَوْقِفًا ظَرْفيا أَوْ تَفْصيلًا عابِرا، بَل يَنْدَرِجُ في سِياقِ تَحَوُّلٍ أَعْمَقَ في مُقارَبَةِ الوِلاياتِ المُتَّحِدَة، وَمَعَها حُلَفاؤُها الغَرْبِيّونَ والعَرَب، لإِعادَةِ هَنْدَسَةِ الشَّرْقِ الأَوْسَطِ على قاعِدَةِ تَثْبيتِ الوَقائِعِ لا انْتِظارِ التَّسْوِيات. في هَذِهِ القِراءَة، لَمْ يَعُدِ الجولانُ أَرْضًا مُحْتَلَّةً تَخْضَعُ لِقَواعِدِ القانونِ الدَّوْلِيّ، بَلْ مَلَفًّا أُقْفِلَ مُسْبَقًا ضِمْنَ مُعادَلَةٍ إِقْليمِيَّةٍ جَديدَةٍ عُنْوانُها: الأَمْنُ أَوَّلا، والاسْتِقْرارُ قَبْلَ الحُقوقِ المُؤَجَّلَة.

مِن خُطَّةِ السَّلام.. إلى إدارةٍ أمْنِيَّةٍ لِلاحتِلال!

في القانُونِ، شَكَّلَ إِعْلانُ تْرامْب عامَ 2019 الاعْتِرافَ بِضَمِّ إِسْرائيلَ لِلجولانِ سابِقَةً خَطيرَة، لِأَنَّهُ كَسَرَ مَبْدَأَ عَدَمِ جَوازِ ضَمِّ الأَراضي بِالقُوَّة، أَحَدَ أَكْثَرِ المَبادِئِ رُسوخًا في النِّظامِ الدَّوْلِيّ. فَقَرارُ مَجْلِسِ الأَمْنِ 497 عامَ 1981 كَرَّسَ حَقيقَةً قانونِيَّةً واضِحَةً بِأَنَّ الجولانَ أَرْضٌ سورِيَّةٌ مُحْتَلَّة، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ طَبيعَةِ السُّلطَةِ الحاكِمَةِ في دِمَشْق. من هُنا، فَإِنَّ تَجْديدَ الاعْتِرافِ الأَميرْكيِّ يَعْكِسُ تَوَجُّهًا أَميرْكِيّا – إِسْرائيلِيّا لِتَكْريسِ حُدودٍ نِهائِيَّةٍ قَبْلَ أَيِّ تَسْوِيَةٍ إِقْليمِيَّةٍ مُحْتَمَلَة.

تجديد الاعتراف الأميركي بضمّ الجولان أداة لضبط سقف الحركة أمام دمشق الجديدة

سِياسِيّا، يَنْدَرِجُ هَذا القَرارُ في صُلْبِ عَقيدَةِ تْرامْب التي لا تَنْظُرُ إلى القانونِ الدَّوْليِّ كَمَرْجِعِيَّةٍ مُلزِمَة، بَل تَتَعامَلُ مَعَ ميزانِ القُوَّةِ بِوَصْفِهِ مَصْدَرَ الشَّرْعِيَّة. وَكَما في شَأْنِ القُدْس، وَفي تَشْجيعِ التَّطْبيعِ العَرَبِيّ - الإِسْرائيلِيّ، وَفي الانْسِحابِ مِنَ الاتِّفاقِ النَّوَوِيِّ مَعَ إيران، تَعامَلَ تْرامْب مَعَ الجولانِ كَأَمْرٍ واقِعٍ يَجِبُ تَثْبيتُه. الرِّسالَةُ كانَتْ واضِحَة: مَنْ يَفْرِضُ سَيْطَرَتَهُ بِالقُوَّةِ وَيَضْمَنُ الأَمْنَ يُكافَأُ بِالاعْتِراف، وَمَنْ يَعْجَزُ عَنِ اسْتِعادَةِ أَرْضِهِ يَخْسَرُها وَلَوْ احْتَفَظَ بِها في الخِطاب.

تَكْتَسِبُ دَلالَةُ تَجْديدِ الاعْتِرافِ بُعْدًا إِضَافيّا إِذا ما قُرِئَتْ في سِياقِ التَّحَوُّلِ الأَميرْكيِّ تُجاهَ سورِيا الجَديدَةِ بِقِيادَةِ أَحْمَد الشَّرْع. فَواشِنْطُن، بِالتَّنْسيقِ مَعَ الرِّياضِ وَعَدَدٍ مِنَ العَواصِمِ الغَرْبِيَّة، تَتَعامَلُ مَعَ النِّظَامِ الجَديدِ من مَنْطِقِ سِياسَةِ الاحْتِواءِ المَشْروطِ التي تَهْدِفُ إلى ضَبْطِ سُلوكِهِ وَإِدْماجِهِ تَدْريجِيًّا. هَذا الاحْتِواءُ الذي يَقومُ على مُعادَلَةٍ واضِحَةٍ لَهُ أَثْمان: انْفِتاحٌ سِياسِيٌّ واقْتِصادِيٌّ مُقابِلَ التِزامٍ أَمْنيٍّ صَارِم، في مُقَدِّمَتِهِ تَحْييدُ الجَبْهَةِ الجَنوبِيَّةِ وإِخْراجُ الجولانِ نِهائِيًّا من أَيِّ مَسارٍ تَفاوُضيٍّ أَوْ صِدامِيّ.

في هَذا الإِطارِ، يُصْبِحُ تَجْديدُ الاعْتِرافِ الأَميرْكيِّ بِضَمِّ الجولانِ أَداةً لِضَبْطِ سَقْفِ الحَرَكَةِ أَمامَ دِمَشْقَ الجَديدَة. فَإِدارَةُ تْرامْب لا تُريدُ إِعادَةَ إِنْتاجِ نَموذَجِ "نِظامٍ يُهادِنُ ظاهِرِيًّا وَيُواجِهُ ضِمْنًا"، لِذَلِكَ جَرى إِخْراجُ الجولانِ من أَيِّ مَسارٍ تَفاوُضيٍّ مُنْذُ البِدايَة. الرِّسالَةُ إلى سورِيا واضِحَة: لا تَفاوُضَ على الحُدودِ مَعَ إِسْرائيل، وَلا مُقاوَمَةَ بِأَشْكالِها المُخْتَلِفَة، وَلا تَوْظيفَ لِلجولانِ في إِعادَةِ بِناءِ شَرْعِيَّةٍ قَوْمِيَّةٍ أَوْ تَعْبِئَةٍ داخِلِيَّة. هَكَذا يَتَحَوَّلُ تَجْديدُ الاعْتِرافِ من مَوْقِفٍ سِياسيٍّ إلى أَداةِ ضَبْطٍ اسْتْراتيجيٍّ طَويلَةِ الأَمَد.

النظام السوري الجديد يجد نفسه أمام مأزق دقيق بين حاجته إلى شرعية خارجية وخشيته من إضعاف شرعيته الوطنية

يَتَقاطَعُ هَذا المَسارُ مَعَ التَّحَوُّلِ الخَليجيِّ بِعامَّةٍ من إِدارَةِ الصِّراعاتِ إلى تَحْييدِها، بُغْيَةَ تَثْبيتِ اسْتِقْرارِ سورِيا وَمَنْعِ انْزِلاقِها مُجَدَّدًا إلى الفَوْضَى ضِمْنَ مَشْروعِ "الاسْتِقْرارِ أَوَّلًا". من هَذا المُنْطَلَق، لا يَبْدو أَنَّ العَرَبَ بِعامَّةٍ في مَوْقِعِ الصِّدامِ مَعَ تَثْبيتِ واقِعِ الجولان، بَلْ في مَوْقِعِ التَّكَيُّفِ الصّامِتِ مَعَه.

وَتَزْدادُ دَلالَةُ هَذا المَسارِ في ظِلِّ الزِّيارَةِ المُرْتَقَبَةِ لِبِنْيامين نِتِنْياهو إلى واشِنْطُن، وَما يُتَداوَلُ عَنْ مُفاوَضَاتٍ سورِيَّةٍ - إِسْرائيلِيَّةٍ حَوْلَ تَفاهُماتٍ أَمْنِيَّةٍ جَنُوبًا. فاعْتِرافُ تْرامْب بِضَمِّ الجولانِ لَيْسَ صَفْحَةً مَطْوِيَّة، بَل هو رَصيدٌ سِياسِيٌّ قابِلٌ لإِعادَةِ التَّوْظيف. في لَحْظَةٍ تَشْهَدُ فيها العَلاقَةُ الأَميرْكِيَّةُ – الإِسْرائِيلِيَّةُ تَبايُناتٍ واضِحَةً حَوْلَ إِدارَةِ الحَرْبِ في غَزَّة، وَحُدودِ التَّصْعيدِ الإِقْليمِيّ، وَغِيابِ أَيِّ أُفُقٍ سِياسيٍّ مُسْتَدام، لا يُسْتَخْدَمُ الجولانُ كَإِغْراءٍ لإِسْرائيلَ لِأَنَّ الاعْتِرافَ بِضَمِّ الجولانِ باتَ واقِعًا أَميرْكِيًّا ثَابِتًا، بَلْ كَأَداةٍ لِتَثْبيتِ شُروطِ السَّلامِ كَما تَراها واشِنْطُن: سَلامٌ مُمْكِن، لَكِنْ ضِمْنَ سَقْفٍ لا يَمَسُّ بِالمَكاسِبِ السِّيادِيَّةِ التي فُرِضَتْ بِالقُوَّة. وَبِهَذا المَعْنى، تَجْديدُ الاعْتِرافِ تَذْكيرٌ لِلقِيادَةِ الإِسْرائيلِيَّةِ بِأَنَّ ما تَحَقَّقَ لَمْ يَكُنْ نِتاجَ ميزانِ القُوَّةِ وَحْدَه، بَل ثَمْرَةَ غِطاءٍ أَميرْكيٍّ يُمْكِنُ إِعادَةُ تَفْعيلِهِ أَوْ حَصْرِه، بِحَسَبِ الالتِزامِ بِالسَّقْفِ السِّياسيِّ الأَميرْكِيّ.

لا يُعاد بناء الشرق الأوسط على السلام العادل بل على توازنات تُراكِم انفجارات مؤجّلة

سورِيًّا، يَسْتَهْدِفُ تَجْديدُ الاعْتِرافِ إِعادَةَ تَعْريفِ المُفاوَضاتِ ضِمْنَ سَقْفٍ يَخْدُمُ المَصْلَحَةَ الإِسْرائيلِيَّةَ حَصْرًا. فالسَّلامُ مَقْبولٌ من حَيْثُ المَبْدَأ، شَرْطَ أَلّا يَفْرِضَ أَيَّ ثَمَنٍ سِياديٍّ أَوْ أَمْنيٍّ على تَلّ أَبيب. هَكَذا تُدْفَعُ المُفاوَضاتُ إلى مَسارٍ أَمْنيٍّ ضَيِّق، وَتُفَرَّغُ من مَضْمونِها السِّياسِيّ، والخَطَرُ هُنا لا يَكْمُنُ في فَشَلِ المُفاوَضات، بَلْ في نَجاحِها ضِمْنَ شُروطٍ تُحَوِّلُ الاحْتِلالِ إلى واقِعٍ مُسْتَقِرٍّ يُدارُ أَمْنِيًّا وَلا يُعالَجُ سِياسِيًّا.

أَمامَ هَذا الواقِع، يَجِدُ النِّظامُ السّورِيُّ الجَديدُ نَفْسَهُ أَمامَ مَأْزِقٍ دَقيقٍ بَيْنَ حاجَتِهِ إلى شَرْعِيَّةٍ خارِجِيَّةٍ تَفْتَحُ بابَ إِعادَةِ الإِعْمار، وَخَشْيَتِهِ من إِضْعافِ شَرْعِيَّتِهِ الوَطَنِيَّةِ إِذا تَعامَلَ مَعَ الجولانِ كَمَلَفٍّ مَنْسِيّ. لِذَلِكَ يَبْدو خِيارُ "اللّامَوْقِفِ" هُوَ الأَرْجَح: رَفْضٌ مُعْلَنٌ والتَّمَسُّكُ بِالقَرارِ 497 لِلاسْتِهْلاكِ السِّياسِيّ، مُقابِلَ تَجْميدٍ عَمَليٍّ لِلمَلَفِّ وَتَفادي أَيِّ احْتِكاكٍ جَنُوبًا.

خطورة اللحظة ليس فقط في ما فُقِد بل في ما يُطْلَب التسليم بفقدانه

خُلاصَةُ القَوْلِ إِنَّ تَجْديدَ الاعْتِرافِ الأَميرْكِيِّ بِضَمِّ الجولانِ يَعْكِسُ مَنْطِقَ إِدارَةِ السِّيادَةِ كَأَداةِ تَفاوُضٍ لا كَحَقّ، وَتُخْتَزَلُ بِقُدْرَةِ الدُّوَلِ على ضَمانِ أَمْنِ إِسْرائيل. الأَخْطَرُ أَنَّ هَذا النَّموذَجَ لا يُهَدِّدُ سورِيا وَحْدَها، بَل يُرَسِّخُ سابِقَةً سِياسِيَّةً قابِلَةً لِلتَّعْميمِ على أَزْماتٍ أُخْرَى في المِنْطَقَة: احْتِلالٌ طَويلُ الأَمَدِ يَتَحَوَّلُ إلى سِيادَةٍ مُعْتَرَفٍ بِها، وَحُقوقٌ تَارِيخِيَّةٌ تُجَمَّدُ بِاسْمِ الواقِعِيَّة، وَأَنْظِمَةٌ تُدْعَمُ مُقابِلَ التَّنازُلِ عَنْ مَلَفّاتٍ سِيادِيَّةٍ جَوْهَرِيَّة. هَكَذا لا يُعادُ بِناءُ الشَّرْقِ الأَوْسَطِ على السَّلامِ العادِل، بَل على تَوازُناتٍ تُراكِمُ انْفِجاراتٍ مُؤَجَّلَة.

في ظِلِّ هَذا المَسار، لَمْ يَعُدِ السُّؤالُ مَتَى يُمْكِنُ لِسورِيا أَنْ تَسْتَعيدَ الجولانَ، بَلْ مَتى سَتُطالَبُ دَوْلَةٌ بَعْدَ أُخْرى، بِالتَّكَيُّفِ مَعَ خَسائِرِها كَشَرْطٍ لِلقَبولِ الدَّوْلِيّ؟ هُنا تَكْمُنُ خُطورَةُ اللَّحْظَة: لَيْسَ فَقَطْ في ما فُقِد، بَل في ما يُطْلَبُ التَّسْليمُ بِفُقْدانِهِ حَتّى قَبْلَ خَوْضِ المَعْرَكَةِ السِّياسِيَّةِ من أَجْلِه.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن