الأمن القومي العربي

العرب في مواجهة إعادة رسم "خطوط النار"!

القاهرة - أحمد أبو المعاطي

المشاركة

تقف المنطقة العربية على أعتاب مرحلة جديدة من مراحل رسم خطوط النار، في مواجهة أحلام الدولة العبرية الرامية للهيمنة على كامل الإقليم، وإقدامها على تصعيد الموقف من جديد، عبر نقلٍ مُمنهجٍ للعمليات العسكرية إلى عواصم عربية جديدة، بقصفِ العاصمة القطرية الدوحة، قبل الشروع تاليًا في تدمير ما تبقّى من مقوّمات الحياة في قطاع غزّة، تمهيدًا لبدء مخططها الرئيسي، بتنفيذ أكبر مشروع "ترانسفير" تشهده الأرض المحتلة، بعد حرب العام 1948.

العرب في مواجهة إعادة رسم

تسير دولة الكيان بخطوات ثابتة، نحو تنفيذ مخطّطها الأبرز، بالهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، وسط صمت دولي مطبق، إلّا من بعض بيانات إدانة متهافتة، ودعم أميركي لا تخطئه عين، في وقتٍ تعاني فيه المنظومة العربية من معادلة ردع مختلّة، لعبت دورًا كبيرًا في استعادة الدولة العبرية لتلك الصورة التي دأبت على ترويجها طيلة فترتَيْ الخمسينيّات والستينيّات من القرن الماضي، حول سلاحها الجوي، القادر على الوصول إلى عمق الأراضي العربية. وهي اللغة ذاتها التي عبّر عنها وزير الدفاع الصهيوني يسرائيل كاتس، بعد ساعات من قصف حي السفارات في الدوحة، بقوله إنّ "يد إسرائيل الطويلة قادرة على الوصول إلى أي مكان قد يشكّل تهديدًا للدولة العبرية".

تقف الولايات المتحدة الأميركية، وإدارة الحزب الجمهوري في خلفيّة المشهد المضطرب الذي تعيشه المنطقة العربية، منذ بداية فترة الرئاسة الثانية لدونالد ترامب في 20 يناير/كانون الثاني الماضي، وما أسفرت عنه تلك الفترة من إعادة ترتيب التحالفات في منطقة الشرق الأوسط. وهي العملية التي تجري على قدم وساق، على الرَّغم من تصاعد العديد من أصوات النخب السياسية في المنطقة العربية، التي تطالب الولايات المتحدة الأميركية، بضرورة إعادة تقييم نهجها التقليدي في دعم إسرائيل، ومحاولة بناء سياسة أكثر عقلانية، تأخذ في الاعتبار المصالح الاستراتيجية الأوسع في المنطقة، والعمل على تعزيز مبدأ الحوار مع جميع الأطراف المعنية، لتجنّب تعميق الفجوات بين المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، ودورها كوسيط في الصراع العربي – الإسرائيلي.

لكنّ هذه الأصوات سرعان ما ذهبت سدًى، وهو ما بات يُشير بوضوح، حسبما ترى الدكتورة هديل ابراهيم (قسم العلوم السياسية في كلية التجارة - جامعة أسيوط)، إلى عمق العلاقة الاستراتيجية الوثيقة بين إسرائيل والولايات المتحدة، وكيف أن الأخيرة ما زالت تعتبر إسرائيل على الرَّغم من عدوانها المتواصل على العديد من العواصم العربية، وما ترتكبه من مذابح في الأرض المحتلة، الحليف الاستراتيجي الأكبر، الذي تستطيع من خلاله أميركا بناء قوتها العملية، وفرض سطوتها كاملة على المنطقة العربية، ورسم سياستها في المنطقة، وهو ما يستلزم حسب تلك الرؤية ضرورة أن تحتفظ إسرائيل دائمًا بقوة الردع، ومن قبل ذلك أن ترمّم صورتها التي تأثّرت كثيرًا، بعد معركة "طوفان الأقصى" التي وُصفت بأنّها "11 سبتمبر إسرائيلية".

تكشف العربدة الصهيونية في المنطقة العربية، وما انتهت إليه من قصفٍ مفاجئ للعاصمة التي لطالما لعبت دور الوسيط في السنوات الأخيرة، بين الجناح السياسي لحركة المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال، حسبما يرى الكثير من الخبراء، عمّا يمكن وصفه بـ"فجوة الأدوار" التي كان يتعيّن أن تقوم بها القوى الدولية قبل أن تصل المنطقة إلى تلك الدرجة من الاشتعال. وهي فجوة تكشف إلى حدٍّ بعيد، تهافت تكهّنات عدّة كانت تذهب كثيرًا إلى القول بتراجع الدور الأميركي في المنطقة، مقابل صعود أدوار قوى أخرى منافسة ـ مثل روسيا والصين ـ تسعى إلى مزاحمة واشنطن على الانخراط في أزمات المنطقة العربية المختلفة، وعلى رأسها قضية الصراع العربي - الإسرائيلي.

لكن سرعان ما سقطت تلك التكهّنات، في ظلّ الحضور الأميركي اللافت في العديد من الضربات التي وجّهتها إسرائيل إلى لبنان وسوريا وإيران والعراق واليمن انتهاءً بالدوحة، فضلًا عن مخطط التهجير القسري للفلسطينيين من غزّة الذي يجري على قدمٍ وساق، وجميعها كانت تشير بوضوح إلى أنّ الولايات المتحدة الأميركية لا تزال هي القوة الدولية الرئيسية المعنية بما يجري في منطقة الشرق الأوسط. وليس أدلّ على ذلك أكثر من قواتها العسكرية، التي تمّ نشرها بالقرب من مسرح العمليات في شرق المتوسط والخليج العربي، والتي بدا واضحًا أنّها أُرسلت لتقديم الدعم الكامل لإسرائيل، سواء في إدارة عملياتها العسكرية ضدّ حركة "حماس" في قطاع غزّة، و"حزب الله" في لبنان، والحوثيين في اليمن، والميليشيات الشيعية المسلّحة في العراق وسوريا، أو في استغلال تكثيف وجودها العسكري في المنطقة، لتقييم مستوى الردع الذي يمكن أن يفرض ضغوطًا على إيران، وبعض القوى الأخرى، ويدفعها إلى ضبط مستوى تفاعلاتها إزاء الملفّات الخلافية المختلفة، سواء الحرب التي تشنّها إسرائيل في المنطقة، أو حتى العمليات العسكرية التي تنفّذها داخل أراضيها، أو البرنامج النووي الإيراني، الذي يتوقّع الكثير من المراقبين أن يواجه اختبارًا صعبًا جديدًا، مع اقتراب ما يسمّى بـ"يوم النهاية" في موعدٍ غايته نهاية أكتوبر/تشرين الأول المقبل.

تعكس الضربة الإسرائيلية الأخيرة للعاصمة القطرية الدوحة، خطة الردع الإسرائيلية خارج حدود غزّة، وهي الخطة التي ترفع، حسبما يقول الدكتور عمر محمد علي، الخبير في مركز الدراسات الاستراتيجية للقوات المسلحة‏ المصرية، شعار "لا مُحرّمات جغرافية"، ذلك أنّ سلسلة الضربات التي اعتمدت تكتيك توسيع الساحات، والتي شملت في الفترة الأخيرة، معظم الأطراف الداعمة لحركة المقاومة الفلسطينية، كانت تستهدف بالأساس الضغط على الوسطاء، لإعادة هندسة شروط التفاوض، وفرض أثمانٍ إقليميةٍ، بعد حرب يونيو/حزيران مع إيران، وما خلّفته الأخيرة من تآكل خطوط حمراء تقليدية. وهو ما أفضى إلى حزمةٍ من النتائج والتداعيات الحالية والمستقبلية، قد تُفضي إلى توسعة الجبهات في البحر الأحمر والعربي والمتوسط، بالتزامن مع تزايد كلفة الاستمرار في التطبيع، من دون مظلّة ردع عربية - إسلامية مشتركة، وهو ما حذّرت منه مسوّدات قرارات القمة العربية - الإسلامية الأخيرة في الدوحة.

وبدا واضحًا في كلمة مصر، التي استهدفت استعادة الدعم العربي، من خلال إعادة إحياء فكرة تشكيل "قوة عربية مشتركة" للتصدّي للأطماع الإسرائيلية المتزايدة في المنطقة، ضمن خطة ما يسمّى بـ"إسرائيل الكبرى"، ولعلّها كانت الأبرز في فعّاليات القمة، التي انتهت إلى بيان ختامي جاء أدنى من مسوّدات كانت أكثر حدّة، قبل أن ينتهي إلى دعوات سياسية وقانونية، ومراجعة للعلاقات، من دون حزمة عقوبات عربية موحّدة، من شأنها أن تحمي العديد من عواصم العرب من ضرباتٍ أخرى محتملة، تبدو في حقيقتها أقرب إلى "أدب الخيول"، الذي ينتهجه مربّو الخيول لتدريبها على الرقص، والاستجابة للأوامر بمرونةٍ عالية!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن