تخطت الحرب بين روسيا وحلف "الناتو" مرحلة الحرب بالوكالة، ودخلت مرحلة جديدة. تتهم أوروبا روسيا باختراق مسيراتها وطائراتها الحربية أجواءها، روسيا نفت وقالت إن بولندا تحققت من أن الطائرات المسيرة التي اخترقت أجواءها غير روسية أو ربما روسية جرى التشويش عليها فانحرفت عن مسارها، لكن الاتهامات لروسيا تخطت بولندا لتشمل الدنمارك واستونيا والنرويج وألمانيا، والأخيرة اتخذت قرارا بإطلاق صواريخها على أي طائرة تخترق أجواءها، وارتفعت الحدة خطوة أخرى بمحاولة اعتراض مدمرة ألمانية سفينة شحن روسية، فانطلقت طائرة روسية لتحلق فوق البارجة الألمانية، فلا يمكن لروسيا أن تسمح بمحاصرة موانيها، وتمنعها من تصدير النفط والغاز تنفيذا لعقوبات الناتو.
وجاء الرئيس الأمريكي ترامب ليرفع وتيرة التصعيد بالإعلان عن تزويد أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى تهدد العمق الروسي، والمزيد من الأسلحة الأخرى بتمويل أوروبي، ووصف روسيا بالفشل، وأنها "نمر من ورق"، وأن أوكرانيا قادرة على هزيمة روسيا وطردها من أراضيها، بل الدخول إلى الأراضي الروسية، وردت روسيا بلهجة تجمع بين السخرية والتحدي، وقالت إننا "دب ولسنا نمرا من ورق"، ليأتي زيلينيسكي ويدلي بتصريح أشد استفزازا، ويتوعد الروس بإعداد الملاجئ، لترد روسيا بأنها قادرة على تدمير أي ملاجئ أوكرانية.
لم تكن الحرب كلامية أو تحرشات فقط، بل واكبها نشر قوات كبيرة لحلف "الناتو" على امتداد الحدود الغربية الروسية، بل وقعت انفجارات ضخمة بمنطقة صناعية في مدينة سويندون البريطانية، أثارت شبهات حول أياد روسية، خاصة أن روسيا اتهمت بريطانيا بالمشاركة المباشرة في الحرب، وأنها كانت مسئولة عن عدة ضربات استهدفت مواقع عسكرية روسية. هكذا تتدحرج الحرب العالمية الثالثة بسرعة نحو الصدام المباشر، وربما تحوله إلى مواجهة نووية، فما سبب التصعيد؟
فشل قمة آلاسكا كان بداية مرحلة جديدة من الحرب، إلى جانب عجز أوكرانيا عن وقف تقدم القوات الروسية، وتصريح زلينيسكي بأنه قد يوقف الحرب نهاية العام الحالي إذا لم تتحرك أوروبا وأمريكا لدعمه بقوة، وهناك سبب أكثر أهمية، وهو اعتقاد أطراف بالإدارة الأمريكية بأن من شأن نشوب حرب أن تحقق فوائد كبيرة لأمريكا، كالتي جنتها بعد الحرب العالمية الثانية، وأنها طوق النجاة من أزمة الديون الهائلة وتراجع قوتها الاقتصادية، وفشل حربها التجارية.
وكذلك الأزمات الاقتصادية الحادة التي تضرب فرنسا وبريطانيا، وتمتد إلى إيطاليا وأسبانيا والتراجع السريع في الاقتصاد الألماني. كل هذه العوامل تتجمع لتدفع نحو حرب عالمية أشد ضراوة مع فشل كل الحلول السياسية، وتنامي إحساس الغرب الأوروبي والأمريكي بأن الهيمنة الغربية دخلت مرحلة الأفول، وتنتقل الهيمنة إلى الشرق الآسيوي لأول مرة منذ خمسة قرون.
الرأي العام الأوروبي في أغلبيته يرفض الحرب، ويتخوف من نهاية مروعة ليس لها مبرر، وإمكانية التعايش على أسس جديدة تقبل بتعدد الأقطاب، لكن السياسيين في أوروبا يشعرون بأن الخطر يهدد أحزابهم، وأن بلادهم مقبلة على مرحلة جديدة، وهو ما كان يراهن عليه الرئيس الروسي بوتين، الذي اعتمد سياسة الحرب المتدرجة، ليحدث شرخا داخل أوروبا وحلف الناتو، ويتعمد استنزاف قوة الناتو. وتؤكد التقارير أن قدرة المجمع العسكري لحلف الناتو محدودة، وغير قادرة على حرب طويلة، وأنها لا تزيد عن نصف قدرة روسيا وحدها، بينما المجمع العسكري الصيني قادر على إنتاج أربعة أضعاف أسلحة وذخائر الناتو، وإذا تحول إلى اقتصاد حرب ستكون القدرة الصينية مضاعفة.
أي أن حلف الناتو لا يمكنه خوض حرب تقليدية طويلة مع روسيا، خاصة في ظل مساعدة الصين وكوريا الشمالية. وكان اللافت أن الرئيس الأمريكي (دونالد) ترامب التقى الرئيس التركي (رجب طيب) أردوغان في اجتماع خاص وحثه علنا على الانخراط في مواجهة روسيا، وأن يتوقف عن استيراد نفط وغاز روسيا، وأن إدارته مستعدة لتزويده بطائرات إف 35 وإف 16 ومنصات دفاع جوي.
أما الإشارة الأكثر خطورة فكانت الإعلان عن أن الصين تساعد روسيا في تطوير الطائرات المسيرة، وأنها تستعد لمواجهة فضائية، وتنتج كميات ضخمة من الأسلحة، منها طائرات الجيل السادس، وأقمار صناعية قادرة على التشويش، بل وإسقاط الأقمار الصناعية الغربية، وطلب ترامب من أوروبا التوقف عن التجارة مع الصين، وهو ما يعني أن أوروبا ستكون تحت السيطرة الأمريكية المباشرة. إن الصدام بين حلف الناتو والتحالف الروسي الصيني يتجه نحو صدام قد يخرج عن السيطرة في أي لحظة، ومصير العالم يتوقف على مجرد خطأ بسيط في الحسابات أو حادث عرضي، وهو أخطر ما قد يصيب مصير البشر في ظل قيادات لا تهتم إلا بمصيرها الشخصي على حساب مصير البشرية.
(الأهرام المصرية)