صحافة

من غزة إلى القرن الأفريقي: مشروع إسرائيلي لإعادة هندسة المنطقة

إبراهيم نوار

المشاركة
من غزة إلى القرن الأفريقي: مشروع إسرائيلي لإعادة هندسة المنطقة

لم تبرح مكانها الحروب التي أشعلتها إسرائيل عام 2025 وما قبله، ولم تنطفئ نيرانها بعد، في سوريا ولبنان والضفة  وقطاع غزة وإيران واليمن، ولم تهدأ تداعياتها في السودان وليبيا والقرن الافريقي الكبير، بل إننا نراها تمد النيران بالزاد والوقود، من أجل أن تستمر كل جبهات الحرب مشتعلة في شرق المتوسط والخليج والقرن الافريقي الكبير. إسرائيل أبت ألا ينقضي العام من دون أن تعلن جدول أعمال السياسة في تلك المناطق للعام الذي سيدخل علينا غدا. إنه لن يدخل بالسلام، ولكن بإشعال مزيد من الجبهات وتسخين الأخرى، بدلا من التهدئة. وهذا هو معنى "السلام الإسرائيلي"! وهو سلام لإسرائيل فقط على حساب غيرها، لن يتحقق من دون أن تظل هي "بلطجي المنطقة"، الذي يشعل الحروب ويثير النزاعات، عن طريق خلق حقائق جديدة معادية على الأرض، تخيف بعض الدول، وتدفع غيرها إلى التواطؤ أو التحالف معها.

انقلاب على خطة ترامب

إسرائيل تعد لانقلاب واسع النطاق على خطة ترامب للسلام في غزة (إسمعوا تصريحات يسرائيل كاتس، وزير الدفاع الإسرائيلي، الذي يعد نفسه لكرسي القيادة بديلا عن نتنياهو). كما إنها تعد خطة لمعاقبة السعودية على سياستها الإقليمية، التي تشترط للتطبيع إقامة دولة فلسطينية (حاولوا قراءة ما يحدث في اليمن على الحدود السعودية). وهي أيضا تعاقب الدبلوماسية السعودية بضرب سوريا، واستخدام حلفائها في السودان وليبيا لتهديد الاستقرار في مصر. وقد قررت توسيع نفوذها الإقليمي إلى القرن الافريقي بإعلان اعترافها بدولة لا تعترف بها دولة أخرى في العالم، بينما هي ترفض الاعتراف بدولة لشعب تجمع الأغلبية الساحقة لدول العالم على حقه في إقامة دولة مستقلة ذات سيادة هي الدولة الفلسطينية، كما جعلت من نفسها بوابة لاستقرار حكام أقزام أو حكومات فاشلة، كما هو الحال في السودان وليبيا.. وتحاول اختراق محور الدول الضامنة لاتفاق السلام في غزة (تركيا ومصر وقطر)، وتستحضر القوات الإثيوبية إلى خط يطل على سيناء، تعزيزا لوضع إثيوبيا في نزاعاتها مع مصر (أمن البحر الأحمر، وأمن المياه) ردا على ذهاب قوات مصرية إلى الصومال. كما أن إسرائيل تعلن للعالم كله أنها هي من يضع جدول الأعمال في الشرق الأوسط للقوى الخارجية غير الشرق أوسطية، بما فيها الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا والولايات المتحدة.

نتنياهو الذي أعلن الاعتراف بدولة أرض الصومال يوم الجمعة الماضي 26 ديسمبر، أرفق بيان الاعتراف برباط بينه وبين اتفاقيات إبراهام التي يرعاها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بينما الرئيس يرد ساخرا بأن تلك الدولة لا يعرفها أحد وأن الولايات المتحدة لن تتبع إسرائيل في الاعتراف بها (فورا). وكما قلت في مقالي في الأسبوع الماضي في هذا المكان، فإن كل التطورات التي جرت خلال الأيام القليلة الماضية تثبت ما قلت من حيث عجز الدبلوماسية العربية، وأنها لا تصنع الحقائق، وغاية ما تفعله هو محاولة اللحاق بها (ردت على اعتراف إسرائيل بأرض الصومال ببيان رافض ودعوة لانعقاد مجلس الأمن). إن ما يحدث من تطورات في الشرق الأوسط في الوقت الحالي يضع جدول أعمال السياسة في الشرق الاوسط بأقاليمه الثلاثة (شرق البحر المتوسط– الخليج- القرن الافريقي الكبير) في قبضة إسرائيل، ويحول صانعي السياسة في العالم العربي، إلى مجرد دمى متحركة على مسرح جهزته إسرائيل وتديره. اللقاء الأخير بين نتنياهو وترامب في منتجع مارالاغو بولاية فلوريدا، لم يكن استثناء، فقد توعد الرئيس الأميركي حركة حماس بـ"عقاب شديد" إذا لم تنزع سلاحها خلال "فترة وجيزة للغاية"، وهدد بضرب إيران إذا استأنفت برنامجها الصاروخي، وهو ما يستجيب لجدول أعمال الزيارة الذي وضعه نتنياهو.

الدولة البلطجية

يكشف مائير بن شبات رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي سابقا، في مقال نشرته صحيفة "إسرائيل اليوم" (15 ديسمبر) المبدأ الرئيسي الذي يجب أن تقوم عليه سياسة إسرائيل تجاه المنطقة قائلا: "يجب على إسرائيل تعزيز صورتها كدولة متنمرة (بلطجية) في كل مناطق الجوار". كما يكشف عن طريق للتعامل مع السياسة الأمريكية التي تنطوي على تضارب للمصالح بين الطرفين قائلا: "ما يهم الإدارة الأميركية أكثر من أي شيء آخر هو ترسيخ وقف إطلاق النار، وترسيخ واقع عدم العداء، الذي سيمكن الرئيس الأميركي من نسب الفضل لنفسه في هذا الإنجاز والمضي قدما نحو تنفيذ خططه الأخرى، مع ذلك، يصعب القول، في ظل الظروف الحالية، إن الانتقال إلى المرحلة الثانية يصب في مصلحة إسرائيل، بل على العكس تماما! فسيطرة الجيش الإسرائيلي على المناطق التي من المفترض إخلاؤها لا تُحسّن فقط من جاهزيته الأمنية لمختلف السيناريوهات، بل تمنح إسرائيل ورقة ضغط قوية على حماس والدول الوسيطة لتلبية مطالبها".

وخرج بن شبات إلى نتيجة تقول: "من الأفضل الإبقاء على الوضع الراهن في قطاع غزة، بدلاً من "التقدم" وفق خطة لا تُحقق أهداف إسرائيل، بل تزيد الضغط عليها، وتُثقل كاهلها. إن قطاع غزة الذي يقع نصفه تحت السيطرة الإسرائيلية، والنصف الآخر غارق في الدمار والخراب، هو بلا مستقبل ولا أمل ولا إعادة تأهيل، أفضل من خطة لا تتضمن نزعاً حقيقياً للقدرات العسكرية". وجهة نظر بن شبات في شأن خطة ترامب للسلام في غزة، تتفق إلى حد كبير مع ما قاله روبرت ساتلوف رئيس معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى (23 ديسمبر): "يخيم الغموض الآن مع استعداد الرئيس ترامب للإعلان عن الانتقال إلى "المرحلة الثانية" من وقف إطلاق النار، التي ستشهد اصطدام مجموعة من المبادرات الواعدة بواقع غزة المقسمة بين مناطق سيطرة إسرائيل وحماس، دون أي مسار متفق عليه لنزع سلاح الجماعات المسلحة – وهو الشرط الأساسي اللازم لأي تقدم حقيقي نحو التنفيذ الكامل لوقف إطلاق النار". ويؤكد ساتلوف، أن لإسرائيل مصلحة قوية في منع اتخاذ موقف يجعل البيت الأبيض مجبرا على الاختيار بين إسرائيل وضامني وقف إطلاق النار، ودعا نتنياهو إلى أن "يقدم حلولاً لتجنب هذا السيناريو الإشكالي للغاية"، وهو ما فعله تماما نتنياهو بإعلان الالتزام بخطة ترامب، بينما هو ينسفها موضوعا.

وإذ أؤكد وجود حوار صهيوني أميركا– إسرائيلي بشأن الانقلاب على خطة ترامب للسلام في غزة، بمشاركة نخبة مختارة من السياسيين السابقين، وأعضاء الكونغرس الأمريكي، وخبراء الشرق الأوسط الذين يعملون في مراكز أبحاث مثل، معهد واشنطن، ومعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، ومعهد مسغاف للأمن القومي والاستراتيجية الصهيونية، ومجلس الأطلنطي، فأنا أؤكد أيضا وجود تحالف داخل إسرائيل للمحافظة على تماسك معسكر اليمين الصهيوني الديني المتطرف، بهدف الفوز بأغلبية مقاعد الكنيست في الانتخابات المقبلة التي قد يعلن نتنياهو موعدها بعد زيارته لواشنطن. وفي سياق هذا الحوار يمكن تفسير التصريحات العدوانية المتشددة التي يطلقها يوما بعد يوم وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي يسرائيل كاتس، الذي قد يتولى زعامة حزب الليكود في حال رحيل نتنياهو سياسيا. خطاب كاتس السياسي لا يختلف عن خطاب كل من بن غفير وزير الأمن القومي، وسموتريتش وزير المالية والاستيطان. كاتس قال في الأسبوع الماضي خلال مؤتمر نظمته صحيفة "ماكور ريشون": "لن تنسحب إسرائيل بالكامل من غزة، وستبقى هناك منطقة أمنية واسعة داخل القطاع، حتى بعد الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق السلام، بشرط أن تتخلى حماس عن سلاحها أولا".

وتابع كاتس مؤكداً: "هذا ما قلته، وهذا ما أقوله الآن، وهذا ما سأظل أقوله". وأوضح أنه "إذا لم تتخل حماس طواعية عن السلاح، فسنفعل نحن ذلك". وأكد وزير الدفاع أيضا أنه إذا تخلّت إسرائيل عن سيطرتها على ممر فيلادلفيا الحدودي بين غزة ومصر "ولو ليوم واحد"، فستنجح إيران في إرسال شتى أنواع الأسلحة إلى غزة. ونفى كاتس مزاعم "تراجعه" عن تصريحاته التي أدلى بها في وقت سابق، ودعا فيها إلى إقامة مستوطنات داخل غزة، قائلاً: "التراجع عن التصريحات أمر لا أفعله". وأشار إلى أن "رؤيته منذ بداية الحرب" لغزة، التي سيتم تنفيذها "في الوقت المناسب"، تتضمن إنشاء مجموعات "ناحال" في شمال قطاع غزة، في إشارة إلى الوحدات العسكرية التي تولت قبل عقود إنشاء بؤر استيطانية تطورت لاحقاً إلى مستوطنات متكاملة. إسرائيل لديها جدول أعمال لغزة، وآخر للضفة الغربية، وجدول أعمال كبير لمنطقة الشرق الأوسط ككل في العام الجديد وما بعده، وهو ما يستحق جدية البحث عن جدول أعمال عربي للشرق الأوسط.

(القدس العربي)
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن