جيوسياسة التضليل الإعلامي!

يُعتبر التضليل الإعلامي من بين التهديدات الهجينة الجديدة، التي أشار إليها مؤشّر "نورماندي للسلم"، وهو تهديد خطير تعاني منه جلّ دول العالم، وخصوصًا تلك التي لا تملك تكنولوجيا المعلومات وتحليل البيانات وتقنية حرب المعلومات. والتضليل الإعلامي هو نمطٌ من التلاعب بالمعلومات، قصد التأثير في جهةٍ معينةٍ داخليًا أو خارجيّا.

جيوسياسة التضليل الإعلامي!

يُقصد بجيوساسة التضليل الإعلامي، ذلك "الفنّ" السياسي الذي يُمكّن الدولة أو قوة معينة أو حركة ما، من صياغة خطط توظيف المعلومات واختلاق الأكاذيب، لحمل الخصم على تصديق المعلومات أو تكذيبها أو ابتلاعها من دون تمحيص، وإصدار قراراتٍ تبعًا لذلك أو الإتيان بمواقف تبعًا لذلك.

جيوسياسة التضليل الإعلامي هي من أدوات القوة الحادّة، التي تلجأ إليها الدول من أجل التأثير بشكل خفيّ وغير ملحوظ، على باقي الدول أو القوى العابرة للحدود، مثل توجيه مسارات الانتخابات والتأثير على الرأي العام لبلدٍ عدوّ، أو حتى حليف يُنتظر منه التوجّه إلى وجهةٍ معيّنة. كما أنّ جيوسياسة التضليل الإعلامي هي مجال معرفي جديد، يدرس طرقًا واستراتيجياتٍ ومناهج قصف العقول واستمالة الشعوب والتلاعب بنفسيّة أفرادها، وتضليل الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي. فالحرب اليوم لا تقتضي، كما قال البعض، قتل الأفراد، ولكن فرض إرادةٍ على خصمٍ استراتيجيّ منافس.

المعلومات أصبحت مجالًا للصراع وركيزةً للقوة الجديدة

ولذا قال رافايل شوفانسي (Raphael Chauvancy)، صاحب كتاب "الانتصار بدون عنف: دليل التأثير وحرب المعلومات" (Vaincre sans violence: Manuel d'influence et de guerre de l'information - صدر الكتاب بالفرنسية سنة 2024)، بأنّ السلاح المعلوماتي هو أداة للتأثير في الحشود والتلاعب بالمنظورات وإعادة تشكيل للواقع.

ولا يخفى على أحد بأنّ المعلومات، أصبحت مجالًا للصراع والمنافسة على صياغة سرديّات المشروعيّة أو نسفها وتقويضها، وبالتالي فالمعلومات أصبحت ركيزةً للقوة الجديدة. ويؤكّد توماس دولاج (Thomas Delage) في افتتاحيةٍ حول التضليل الإعلامي لعددٍ من المجلّة الفرنسية "ديبلوماسيّة" (Diplomatie)، أنّ الفضاء المعلوماتي يتعرّض باستمرار لحرب سريعة وعنيفة ومدمّرة وشاملة، تعمل على إضعاف المجتمعات الديموقراطية.

ومن المُلاحظ أنّ الذكاء الاصطناعي وتقنيات صناعة الأخبار الكاذبة، والتزييف العميق (Deepfakes) التي تولّد محتوياتٍ مزيّفةً تُضاهي الحقيقة، تؤدّي إلى زعزعة ثقة الجماهير في المعلومات وترسّخ نزعة الشكّ في كلّ شيء، وتبعث على عدم اليقين بشكلٍ دائم. ومن المُلاحظ كذلك، أنّ هناك تفاوتًا في وعي الأفراد بخطورة التضليل الإعلامي من مجتمعٍ إلى آخر. ففي حين يؤكّد تقرير المخاطر لسنة 2025، الصادر عن "المنتدى الاقتصادي العالمي"، أنّ ثمانية أفراد من أصل عشرة، في المجتمعات الغربية على وعيٍ بخطورة التضليل الإعلامي، فإنّنا نفتقد إلى إحصائياتٍ دقيقةٍ بخصوص وعي الأفراد في المجتمعات العربية، إذ ما زال هناك تعثّر وتأخّر في توعية المواطنين بهذا الخطر الكبير.

أصبح الجميع معرّضًا للتضليل بسبب الإبحار المستمر في الفضاء الرقمي من دون ضوابط ولا مهارات غربلة المعلومات

لم يكن التضليل الإعلامي في العقود السابقة، بالخطورة نفسها التي هو عليها اليوم، وذلك بسبب تطوّر مؤشر الولوج إلى العالم الرقمي وكثافة التواصل، فقد أصبح الجميع معرّضًا للتضليل، بسبب الإبحار المستمر في الفضاء الرقمي من دون ضوابط ولا مهارات تمحيص ونقد وغربلة المعلومات. ويرى دافيد كولون (David Colon)، وهو باحث متخصّص في هذا المجال، أنّ حرب المعلومات اليوم، هي حرب شاملة وتستوعب الأبعاد ومجالات المجتمع كافّة، بل الوجود الإنساني، سواء كان الإنسان على وعيٍ بذلك أم لا. وحرب التضليل هي سلاح موجّه ضدّ الخصم لإلحاق الضرر به أو حمله على الرضوخ والانحناء.

ويصف البعض عصر حرب المعلومات، بزمن ما بعد الحقيقة، لأنّ الحقيقة تضيع وسط ضجيج وصخب الأخبار الكاذبة التي يتمّ اختلاقها بشكل مستمر وبمهنية عالية. فصناعة الكذب وتزوير الحقائق وإفشاء عيوب الخصم، وتضخيمها، يجعل المتلقّي تائهًا وحائرًا وغير قادرٍ على التمييز بين الحقّ والباطل. لكن على الرَّغم من ذلك، فإنّ الأخبار الكاذبة التي هي وسيلة من وسائل التضليل الإعلامي، لا تصل إلى مستوى أخطر من التلاعب بالعقول والنفسيات والمدارك، الذي يمارَس عن طريق "الحرب المعرفية".

الدول التي لا تملك مقوّمات التحصين المعرفي والنفسي معرّضة للإنهاك والهشاشة الاستراتيجية والاضمحلال

إنّ "تلويث المعرفة" وتضليل الناس بواسطة ترويج "معارف مزعومة"، أشدّ تأثيرًا وإعادةً لتشكيل العقول والتمثّلات حول الذات والآخر والعالم. كما أنّ تلويث المعرفة يتمّ فيها تشويه الواقع وتزييف الحقائق وتغليفها بثوب "العِلمية" والموضوعية والبحث العلمي. لذا نجد الكثير من الجماعات المتطرّفة تختطف المفاهيم وتُحمّلها دلالاتٍ تخدم مصالحها الإيديولوجية، وتوهم المتلقّي بمصداقيّة أطروحاتها.

إنّ جيوسياسة التضليل الإعلامي، هي صراعٌ محتدمٌ بين مختلف القوى العالمية، وحركات عابرة للحدود، وصراعٌ على النفوذ وتسيّد العالم. لذلك، هناك استثمارٌ هائلٌ في حرب المعلومات والحرب المعرفية. وستظلّ الدول التي لا تملك مقوّمات التحصين المعرفي والنفسي والقدرة على بناء خطط الصمود الجيوثقافي، معرّضةً للإنهاك والهشاشة الاستراتيجية، بل الاضمحلال في عصر ما بعد الحقيقة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن