إذا وضعنا جانباً القرار 1701 وتأويلاته على اختلافها، وعموم النصوص التي رافقت ذلك، جاز لنا الحديث عن تباين في فهم ما انتهت إليه "حرب الإسناد" والحرب الإسرائيليّة المضادّة. فالقراءة الرسميّة اللبنانيّة مؤدّاها وجود "التزامات متبادلة" و"خطوة مقابل خطوة"، وإذا أخلّ الإسرائيليّون بالتزاماتهم حقَّ للّبنانيّين أن يُخلّوا. لكنّ هذه القراءة (التي ربّما أملاها ضعف القدرات الفعليّة أو ربّما التظاهر بالضعف) تبدو محاصَرة بالقراءة الإسرائيليّة، وإلى حدّ بعيد الأميركيّة.
ذاك أنّ الوضع الراهن، من منظور تلّ أبيب وواشنطن، هو وضع مهزوم ومنتصر، وما على المهزوم إلاّ أن يلبّي مطالب المنتصر. أمّا القول بتوازن في الالتزامات وفي تنفيذها، بين طرفين متكافئين، فهراءٌ محض لا تملك الدولة اللبنانيّة تَرفه. ولم يتردّد الإسرائيليّون في التصريح بأنّهم هم من سيقوم بالعمل، أي مصادرة سلاح "حزب الله"، فيما لو امتنعت السلطات اللبنانيّة عن المبادرة. وبموجب فهمهم لواقع الحال، كما بموجب معرفتنا بنتنياهو وإجرامه الذي لا يردعه رادع، يُستحسن حمل التهديد والوعيد الإسرائيليّين على محمل الجدّ.
ما يمنح هذه الوجهة زخماً إضافيّاً ما يقوله الإسرائيليّون، أكان صدقاً أو كذباً، من أنّ "حزب الله" يحاول ترميم قدراته. وبطبيعة الحال فالكذب، هنا، أخطر من الصدق إذ ينمّ عن نيّة حاسمة لا يردعها إلاّ التخلّص الفعليّ من سلاح الحزب. لكنّ سلوك الأخير، الذي يطالب بـ"عدم الرضوخ للإرادة الإسرائيليّة والأميركيّة"، لا يعني فعليّاً سوى التوريط المفضي إلى انتحار. ونعرف أنّ التوريط جزء لا يتجزّأ من تكوين الحزب واستراتيجيّته، هو الذي لم يردعه انسحاب 2000 الإسرائيليّ عن المضيّ في مقاومته، قبل أن يخطف، في 2006، جنديّين إسرائيليّين ويستدعي حرباً على لبنان.
إلاّ أنّ اللافت بعد "حرب الإسناد" وهزيمتها أنّ «حزب الله»، الذي بات محصوراً في موقع دفاعيّ بحت، رفع نبرته الهجوميّة التي تُسمع ترجيعاتها في طهران، حيث يعلن رئيس البرلمان محمّد قاليباف أنّ "تزويد الحزب بالصواريخ ليس مستحيلاً"، وفي صنعاء حيث يخبرنا عبد الملك الحوثي أنّ الحكومة اللبنانيّة "تقدّم خدمات مجّانيّة للعدوّ الإسرائيليّ". وحال الرجلين، اللذين يطلاّن برأسيهما من تحت الأنقاض، ليست أفضل من حال "حزب الله".
ويذكر اللبنانيّون والسوريّون تلك العبارة التي كُتبت على الجدران عن حافظ الأسد بوصفه "أسداً في لبنان وأرنب في الجولان"، وهو المعنى الذي يتكرّر حرفيّاً في "حزب الله" ورُعاته وحلفائه الإقليميّين. وتماماً كما صُوّر حافظ الأسد بوصفه "بطل الجولان"، وكان هو شخصياً راعي خسارة الجولان لإسرائيل، تتكفّل الآلة اللاعقلانيّة بوصف "حزب الله" المهزوم حزباً لـ"الدفاع عن لبنان" و"حمايته".
لقد جاء استعراض القوّة الأخير بإضاءة صخرة الروشة بصورتي حسن نصر الله وهاشم صفيّ الدين تعبيراً بليغاً عن تلك الطبيعة المزدوجة. فمَن كان يتوقّع من الحزب أن يحزن ويتأمّل ويراجع، مع مرور عام على مقتل زعيميه، وأكثر من عام على الكارثة التي أنزلها بلبنان وبنفسه، وجده عديم الاكتراث بهذه المشاعر الرفيعة، لا يعنيه إلاّ التجرّؤ على الدولة والمجتمع اللبنانيّين، وإرفاق التجرّؤ بكمٍّ من الخرافات وتزوير الحقائق والتذاكي اللايزريّ المثير للشفقة.
والحال أنّ التشكيلات الممانعة، خصوصاً فرعها اللبنانيّ، تشكيلات حرب أهليّة يقتصر همّها الفعليّ على فرض إرادتها على مجتمعها، وإحلال سلطة تابعة لها، أو مذعنة يجسّدها سياسيّون فاسدون وخاضعون من الصنف الذي كان "حاكماً" قبل "حرب الإسناد". ولم تفت لبنانييّن كثيرين تلك الدلالة الرمزيّة لإحدى الصور التي ازدهت بها صخرة الروشة: سبّابة حسن نصر الله التي اعتاد على تهديد "القُصّر" اللبنانيّين بها.
لكنّ الحزب، بوصفه بُنية حرب أهليّة، يؤثر أن لا تنتقل الحرب من الكمون إلى العلن الذي يزيل عنه آخر أوراق التوت كـ"طرف مقاوم". فمع الحرب الكامنة يُضمَن تحويل الناس إلى نعاج قليلة الأكلاف، وبموجب الاستحواذ على اللغة اللاعقلانيّة إيّاها، توصم النعجة التي ترفض أن تكون نعجة بالصهيونيّة وبالعمالة لإسرائيل. ولئن كان بديهيّاً عدم تمنّي الحرب الأهليّة، وشعبيّة عدم التمنّي هذا، فالمؤكّد أنّ التراجع أمام قواها، وأمام شبقها السلطويّ، هو تشجيع عليها، أو أقلّه على الخضوع لابتزازها.
وللأسف ففي حالة التراجع أمام الحزب سيكون الإسرائيليّون، غير المعنيّين بتلك الاعتبارات كلّها، الطرف الذي يحوّل الحرب الأهليّة الضامرة حرباً عابرة للحدود، وينجز المهمّة التي عجزت عنها الدولة اللبنانيّة. ولسوف تكون النتيجة، والحال هذه، توريطاً آخر يفوق ما سبقه حجماً، فيخلّف موتاً أكثر واحتلالاً أوسع وجنوباً وإعماراً أقلّ. أمّا موقع لبنان التفاوضيّ حيال الدولة العبريّة فسوف يزداد تدهوراً يفاقم تدهوره الحاليّ. فمن يريد أن تكون يد إسرائيل مكفوفةً عليه الدفع باتّجاه نزع سلاح الحزب الذي يورّطنا في الخارج ويُهيننا في الداخل فارضاً نظام حرب أهليّة علينا، بدل التشدّق بلغة لا يصدّقها أصحابها عن توازن في تنفيذ الالتزامات بين منتصر ومهزوم لا "ينتصر" إلاّ في الروشة.
(الشرق الأوسط)