تميّز الملك عبدالله الثاني منذ اعتلائه عرش المملكة الأردنية في العام 1999 بالوضوح وبعد النظر. لا يأتي هذا الكلام من فراغ مقدار ما أنّه كلام أثبتت الأحداث المتلاحقة صحته. كان العاهل الأردني دائماً في غاية الوضوح والصراحة والجرأة في تسمية الأشياء بأسمائها. لهذا السبب نراه متشائماً هذه الأيام بكلّ ما يتعلّق بالحكومة الإسرائيلية الحالية وسياساتها المتهورة. يجد الأردن نفسه أمام حكومة معادية للسلام يصعب إيجاد أي نوع من التفاهمات معها، خصوصاً أن بنيامين نتنياهو يعتبر نفسه مرجعية دول المنطقة من جهة، وأنّه الرئيس الفعلي للولايات المتحدة، من جهة أخرى.
عكس هذا التشاؤم الأردني الخطاب الذي ألقاه عبدالله الثاني في دورة الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وهو خطاب قطع فيه الأمل من أي سلام يتحقق بوجود الحكومة الإسرائيلية الحالية ووجود كلّ هذا الدعم الأميركي لها. قال "إن الدعوات الاستفزازية للحكومة الإسرائيلية الحالية التي تنادي بما يسمى إسرائيل الكبرى لا يمكن أن تتحقق إلا بالانتهاك الصارخ لسيادة وسلامة أراضي البلدان المجاورة لها، وهذا أمر لا يمكن القبول به. ولا يسعني إلا أن أتساءل: هل كان العالم سيستجيب بمثل هذه اللامبالاة لو أن زعيماً عربياً أطلق دعوة مشابهة؟".
وتابع: "على المجتمع الدولي أن يتوقف عن التمسك بالاعتقاد الواهم بأن هذه الحكومة الإسرائيلية شريك راغب في السلام. بل على العكس تماماً، فإن أفعالها على أرض الواقع تهدم الأسس التي يمكن أن يرتكز السلام عليها، وتدفن بشكل متعمد فكرة قيام الدولة الفلسطينية. وقد بينت بشكل واضح أنها لا تعير اهتماماً لسيادة الدول الأخرى، كما شهدنا في لبنان وإيران وسوريا وتونس، والآن أيضا في قطر".
في صيف العام 2002، في أغسطس تحديداً، حذر العاهل الأردني الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، في لقاء انعقد بينهما في البيت الأبيض قبل نحو سبعة أشهر من بدء الحملة العسكرية الأميركية في العراق، من النتائج الخطيرة التي ستترتب على الاجتياح الأميركي لهذا البلد. حذره عملياً من غياب تصور لمرحلة ما بعد سقوط نظام صدّام حسين. لم يكن عبدالله الثاني معجباً بصدّام بأي شكل. لم تكن لديه أوهام في ما يخص الديكتاتور العراقي الراحل وطبيعة النظام الذي أقامه ومدى غبائه السياسي الذي أوصله صيف العام 1990 إلى غزو الكويت.
لكنّ عبدالله الثاني كان يدرك ما معنى سقوط النظام العراقي، ومعه العراق، من دون تخطيط دقيق لمرحلة ما بعد هذا السقوط، خصوصاً لجهة التسبب في نشوء توازنات إقليميّة جديدة تصبّ في مصلحة "الجمهوريّة الإسلاميّة" في إيران التي لم تتخل يوماً عن مشروعها التوسّعي في المنطقة وشعار "تصدير الثورة". كشفت الأحداث التي تلت الحرب على العراق كم عبدالله الثاني على حق، خصوصاً عندما كان أوّل من تجرّأ على التحدث عن "الهلال"، الممتد من طهران، إلى بغداد، إلى دمشق، إلى بيروت، في حديث إلى صحيفة "واشنطن بوست" في أكتوبر 2004.
حذّر من النتائج بالغة الخطورة لوضع إيران يدها على العراق في ظلّ وجود نظام سوري، على رأسه بشّار الأسد، موال كلّيا لـ"الجمهوريّة الإسلاميّة". كانت لهذا النظام هيمنة كاملة على لبنان، وقد سمح له ذلك بتوفير الغطاء من أجل اغتيال رفيق الحريري، الرجل الذي أعاد الحياة إلى بيروت وأعاد وضع لبنان على خريطة المنطقة. يرفض دونالد ترامب، كما ظهر من خلال خطابه في الأمم المتحدة الانضمام إلى مبادرة خيار الدولتين بحجة أنّ تأييد قيام دولة فلسطينية "هديّة لحماس".
يجهل ترامب وكبار المسؤولين في إدارته، أن رفض الدولة الفلسطينية نقطة التقاء بين اليمين الإسرائيلي و"حماس". يجهل هؤلاء ألف باء السياسة في الشرق الأوسط وكلّ ما له علاقة بالبديهيات. أي رهان اليمين الإسرائيلي على "حماس" منذ سنوات طويلة من أجل إفشال المشروع الوطني الفلسطيني القائم على خيار الدولتين. الأكيد أنّ مثل هذا الخيار يحتاج إلى سلطة وطنية فلسطينية مختلفة كلّياً. سيكون صعباً على الإدارة الأميركية تغيير موقفها من خيار الدولة الفلسطينية الذي تدفع المملكة العربيّة السعودية بالتنسيق مع فرنسا إلى جعل العالم كلّه يقبل به والذي يعتبر أن لا خيار آخر من أجل تحقيق السلام في المنطقة.
على الرغم من ذلك كلّه، لم ييأس عبدالله الثاني، فضل الكلام على الصمت في الأمم المتحدة. اكتفى بالقول "يجب على الأمم المتحدة أن تردد هذا النداء: الوقت قد حان. ويجب على الأمم المتحدة أن تلبي هذا النداء (نداء الدولة الفلسطينية) حتى يصبح السلام واقعاً". كم من الوقت يحتاج الرئيس الأميركي للاقتناع بأن الهرب من خيار الدولة الفلسطينية ليس سوى وصفة لقيام مزيد من الحروب لا يمكن أن يستفيد منها غير المتربصين بالسلام، من اليمين الإسرائيلي... إلى "حماس" واخوتها، مثل الحوثي و"حزب الله" والنظام القائم في إيران.
(الراي الكويتية)