المؤكّد أنّ تلك الحرب تستنزف الاقتصادَيْن المتحاربَيْن، وبينما يعتمد الاقتصاد الروسي على نفسه لتمويل مجهوده الحربي، فإنّ الاقتصاد الأوكراني يعتمد على "طوفان المساعدات" من أوروبا والولايات المتحدة في تمويل مجهوده الحربي واحتياجاته الاقتصادية، إذ بلغت المساعدات العسكرية والمالية والإنسانية الأوروبية لأوكرانيا نحو 132 مليار يورو حتى بداية عام 2025، بينما بلغت قيمة المساعدات الأميركية حتى ذلك التاريخ نحو 114 مليار يورو، وغالبيّتها مساعدات عسكرية.
اقتصاد روسيا ومؤشرات أدائه... "نمر من ورق" أم "دب كاسر"؟
في عام 2021، أي قبل الحرب مع أوكرانيا، أشارت بيانات "صندوق النقد الدولي"، في قاعدة بيانات تقرير آفاق الاقتصاد العالمي، إلى أنّ الناتج المحلي الإجمالي الروسي المحسوب بالدولار وفقًا لسعر الصرف السائد، بلغ نحو 1.8 تريليون دولار، مقارنةً بنحو 4.9 تريليونات دولار لليابان، ونحو 4.9 تريليونات دولار لألمانيا. وفي عام 2024، ارتفع الناتج الروسي إلى 2.2 تريليون دولار، مقابل 4 تريليونات دولار لليابان، ونحو 4.7 تريليونات دولار لألمانيا.
أمّا الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي المحسوب بالدولار وفقًا لتعادل القوى الشرائية في عام 2021، فقد بلغ نحو 4.5 تريليونات دولار في روسيا، مقارنةً بنحو 5.6 تريليونات دولار لليابان، ونحو 4.9 تريليونات دولار لألمانيا. وفي عام 2024، وعلى الرَّغم من استنزاف الحرب لروسيا، بلغ النّاتج المحلي الإجمالي الروسي المحسوب بالدولار وفقًا لتعادل القوى الشرائية نحو 6.9 تريليونات دولار، مقارنةً بنحو 6.5 تريليونات دولار لليابان، ونحو 6 تريليونات دولار لألمانيا. وبذلك، تكون روسيا قد تقدّمت من المرتبة السادسة، إلى المرتبة الرابعة عالميًا مُتجاوزةً اليابان وألمانيا ولا يسبقها سوى الصين والولايات المتحدة والهند.
البيانات توضح أنّ الأداء الاقتصادي لروسيا أفضل من نظيرَيْه في أوروبا والولايات المتحدة
وقد تمكّنت روسيا من تحقيق ذلك عبر احتشاد ادّخاري واستثماري، إذ بلغ معدّل الاستثمار في روسيا نحو 27%، و27.1%، و28.6% في الأعوام 2023، و2024، و2025 على التوالي. وبلغ معدّل الادّخار في الأعوام المذكورة بالترتيب نحو 29.4%، و30%، و30.5%. أي أنّ الاستثمار قد تمّ تمويله من المدّخرات المحلية مع وجود فائض كبير في الموارد المحلية بسبب ارتفاع معدّل الادّخار عن معدّل الاستثمار.
ومع فورة الاستثمارات المحلّية لتعويض انسحاب المستثمرين الأوروبيين والأميركيين من روسيا، تراجع معدّل البطالة من 4.8% عام 2021، إلى 2.5% عام 2024، علمًا أنّ معدّل البطالة بلغ 4% في الولايات المتحدة عام 2024، أي أعلى كثيرًا من نظيره في روسيا.
وبلغ معدّل النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي الروسي نحو -1.4%، و4.1%، و4.1% في الأعوام 2022، و2023، و2024، مقارنةً بنحو 2.5%، و2.9%، و2.8% في الأعوام المذكورة بالترتيب في الولايات المتحدة، ونحو 3.5%، و0.4%، و0.9% في الأعوام المذكورة بالترتيب في مجموع منطقة اليورو.
وتلك البيانات توضح أنّ الأداء الاقتصادي لروسيا أفضل من نظيرَيْه في أوروبا والولايات المتحدة، بما يعزّز ردّ روسيا بأنّها "دب" وليست "نمرًا من ورق" كما صرّح ترامب، ما يجعل حديث الأخير عن الانهيار الاقتصادي الروسي مجرّد تجلٍّ جديدٍ لخبله!.
فائض روسي في التجارة والحساب الجاري مقابل عجز أميركي هائل لكلَيْهما
تشير بيانات "منظمة التجارة العالمية" إلى أنّ قيمة الصادرات السلعية الروسية بلغت 417 مليار دولار عام 2024، بينما بلغت قيمة وارداتها نحو 295 مليار دولار، بما يعني تحقيق روسيا لفائض تجاري بلغ 122 مليار دولار في العام المذكور. وفي المقابل، بلغت قيمة صادرات الولايات المتحدة الأميركية نحو 2065 مليار دولار عام 2024، وبلغت قيمة وارداتها نحو 3359 مليار دولار، وبلغ العجز التجاري الأميركي نحو -1294 مليار دولار. وحقّق الميزان التجاري لكلّ من بريطانيا وفرنسا واليابان بالترتيب عجزًا بلغ -303، و-110، و-36 مليار دولار في العام 2024، بينما حقّقت ألمانيا فائضًا بلغ 258 مليار دولار في العام المذكور.
وحقّق ميزان الحساب الجاري الروسي، وهو محصّلة ميزان تجارة السلع والخدمات والتحويلات، فائضًا بلغ 6.8% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2021 قبل بدء الحرب مع أوكرانيا، وارتفع ذلك الفائض إلى مستوًى قياسيّ بحيث بلغ 10.4% من الناتج عام 2022، وتراجع بعد ذلك، لكنّه ظلّ فائضًا إيجابيًا بنسبة 2.4%، و2.9% من الناتج المحلي الإجمالي عامَيْ 2023، و2024 على التوالي. وفي المقابل، بلغ عجز ميزان الحساب الجاري الأميركي نحو -3.7%، و-3.9%، و-3.3%، و-3.9% من الناتج المحلي الإجمالي في الأعوام 2021، و2022، و2023، و2024 على التوالي.
ما ردّده ترامب عن انهيار الاقتصاد الروسي هو مجرّد هلوسة إنشائية
وبينما تعتمد روسيا على ذاتها في تحقيق التوازن والفائض في موازينها الخارجية، فإنّ الولايات المتحدة تعتمد على الاقتراض من الخارج ورفع سقف الدين الخارجي إلى مستوياتٍ خياليةٍ بلغت 36.1 تريليون دولار في العام الحالي، وطباعة البنك المركزي للدولارات من دون غطاء إنتاجي أو ذهبي، وهو أمر لن يدوم طويلًا مع تصاعد الاتجاه لتسوية التعاملات الدولية بعملاتٍ أخرى وخاصةً في مجموعة "بريكس" (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا، إندونيسيا، مصر، إيران، إثيوبيا، الإمارات) التي بلغ ناتجها المحلي وفقًا لتعادل القوى الشرائية نحو 76.9 تريليون دولار تُعادل 39.2% من الإجمالي العالمي، مقارنةً بنحو 56.6 تريليون دولار تُعادل 28.9% من الإجمالي العالمي، لمجموع النواتج المحلية الإجمالية الحقيقية لما يسمّى بالدول الصناعية السبع "الكبرى".
وقد توافقت مجموعة "بريكس" على تسوية التعاملات بين دولها بعملاتها المحلية. وبلغت نسبة التعاملات بتلك العملات نحو 90% من تجارة روسيا مع باقي دول المجموعة وفقًا لوزير الخارجية الروسي. ويمكن التأكيد على أنّ ما ردّده ترامب عن انهيار الاقتصاد الروسي، أو أنّ روسيا هي نمر من ورق، هو مجرّد هلوسة إنشائية لا ظلّ لها من الحقيقة!.
أمّا الآليات التي مكّنت روسيا من مواجهة طوفان العقوبات الأوروبية والأميركية، فإنّها تستحقّ تناولًا منفردًا في الجزء الثاني من هذا المقال.
(خاص "عروبة 22")