لم تكن مصادفة أن يعلن توم باراك مبعوث ترامب لسوريا أن حدود دول المنطقة هي نتاج معاهدة "سايكس بيكو" لمجموعة من القبائل وهو قول سخيف لجاهل بالتاريخ والحضارات ثم بجاحة نتنياهو العام الماضي أمام الأمم المتحدة وهو يستعرض خرائطه، ثم يكرر في الأيام الأخيرة أحلامه التلمودية عن إسرائيل الكبرى وأنه سيغير الشرق الأوسط، وهكذا تتم صياغة الشرق الأوسط بالأقلام الدبلوماسية قبل أن يُصاغ بالدماء على الأرض.
لم تكن التحولات السياسية الكبرى نتيجة تفاعلات طبيعية بين القوى الداخلية، بل غالبًا ما كانت مقررة سلفًا على طاولات لم يكن لشعوب المنطقة أي مقعد فيها. وأصبحت كل دولة مشروعا لإعادة التأسيس، وكل نظام هو بقايا عهد لم يعُد مرغوبا فيه، وكل مقاومة تُصنَّف بوصفها تهديدا وجوديا وكانت البداية العلنية في تصريح كوندوليزا رايس خلال الحرب على لبنان عام 2006، حين وصفت الأحداث بأنها "مخاض ضروري لولادة شرق أوسط جديد" هذا التصريح عبّر عن رؤية سياسية ترى في الأزمات الكبرى فرصًا لإعادة تشكيل المشهد الإقليمي، فى مقاربة تستند إلى أن التحولات الجذرية غالبًا ما تأتي عقب مراحل اضطراب وصراع.
ومنذ هذا الإعلان بدا واضحاً أن المقصود ليس مجرد تحالفات أو تسويات دبلوماسية، بل إعادة ضبط المجال الجغرافي والسياسي للمنطقة وفق محددات جديدة. إذ لم يكن الهدف مما سمي الربيع العربى فقط تغيير الأنظمة، بل تفكيك النسيج الداخلي للدول، وتحويل الكيانات السياسية إلى وحدات مرنة: قابلة للدمج، أو التفتيت، أو التحييد. فالصراع لم يعُد على الأرض فقط، بل على معنى الدولة، ومعنى الاستقلال، ومعنى الشعوب لكي تقع منطقة الشرق الأوسط بتقسيماتها القديمة التي رسمتها اتفاقيات "سايكس بيكو" تحت مطرقة التغيير وتقف على مفترق طرق حرج جدا، حيث تتم هندستها بأدوات عسكرية وحشية غير مسبوقة. وبدون أدنى اعتبار للقيم الإنسانية فى تجويع وإبادة المدنيين العزل في قطاع غزة.
ذلك لأنهم لايريدون لمستقبل الشرق الأوسط أن يتغير، بل أن يُمحى ويُعاد رسمه من جديد، بأيدٍ لا تنتمى إليه، ولا تفهم روحه و..هناك سباق بين من يصنع الخرائط..ومن يرفض أن يكون مجرد خطّ فيها. وكان الحديث عن الشرق الأوسط الجديد والتغييرات المنشودة ظل مجرد حديث غير قابل للتحقيق، بسبب وجود قوى المقاومة، فى لبنان والعراق واليمن وإيران حجر عثرة أمام واضعي خرائط المنطقة ولهذا كان من المهم القضاء عليها كما حدث خلال العام الأخير. وللأسف كان هناك من يهلل لإبادة المقاومة واصطيادها واحدة بعد الأخرى بدون أي مدد من محيطها وكأن المنطقة كانت تتآمر على آخر ورقة لصد مشروعات ترسيم الحدود حتى ما حدث لإيران لم يكن بهدف إسقاط النظام بل خلق "إيران جديدة"، تتخلى عن طموحاتها النووية والإقليمية، وتدخل في نادٍ سياسي يخدم ولو مرحلياً إعادة ضبط الشرق الأوسط. ذلك لان المشروع الأمريكي لا يحتمل لاعبين جددا وخلال ذلك برزت تحالفات جديدة وغير مستقرة، حيث تبرز إلى الوجود قوى انفصالية جديدة تجد نفسها حليفة للكيان الإسرائيلي في مواجهة تهديدات مشتركة، والعكس صحيح.
بروز تحالفات إقليمية جديدة، مثل التطبيع الأخير بين إسرائيل وبعض الدول العربية، يعكس هذا الواقع المتوتر والمتغير للمنطقة وترتكز رؤية نتنياهو على التفوق العسكري وحده، وهو ما يضمن له عدم الحاجة لاتفاقيات أو مقترحات سلام، بل قوة ضاربة تُسكت الخصوم وتفرض إيقاعا جديدا على الإقليم، وهكذا لا تعود تل أبيب تطالب بحل سياسي، بل تسعى إلى تصفية القضية الفلسطينية بالقوة بالتوازي مع تفكيك النفوذ الإيراني وقد نشر خرائط طموحاته العام الماضي فى الأمم المتحدة وأعاد مؤخرا خرافات إسرائيل الكبرى. بينما ترتكز الرؤية الأمريكية للشرق الأوسط الجديد على إسرائيل وحدها، وتهدف إلى إعادة تشكيل جغرافيا المصالح الأمريكية على غرار تجربة الاتحاد الأوروبي، لكنها بشكل يخدم التوازنات الإستراتيجية فى وجه خصوم واشنطن، من طهران إلى بكين.
لذا فهي بصدد هندسة بنية إقليمية جديدة تجمع الحلفاء وتُقصي الخصوم، لذا كان تأييدها السافر إسرائيل في حرب الإبادة فى غزة وفي غياب اى مشروع عربي أو إقليمي، بدأت ملامح المحاور السياسية والعسكرية التى ستحكم موازين القوة في مستقبل الشرق تظهر بوضوح، هناك محور إماراتي هندي إسرائيلي، فى مقابل محور سعودي باكستاني تركي، والأشهر المقبلة ستجلي معالم هذه المحاور بصورة أكثر صراحة.
(الأهرام المصرية)