لكنّ الهزيمة في العمق أطاحت بتلك الشعارات التي كانت تُعبّر عن طموحات تبنّتها الغالبية من العرب، وهي شعارات الوحدة والحرية إضافةً إلى الاشتراكية، والتي حوّلتها الأنظمة إلى نقيضها. فصارت الوحدة هي وحدة النظام والسلطة إزاء شعبها، أمّا الحرية فكانت حرية هذا النظام وذاك في تقييد المواطِن وإلغاء حرية القول والرأي، وكانت الاشتراكية أقرب إلى المصادرة والإجراءات الانتقامية باسم العمال والفلاحين. وبذلك، سقطت هذه الشعارات التي انقاد إليها العربي، الذي ظنّ أنّها ستحمل إليه الوحدة الحقيقية وحريته وتحرّره وإقامة نظام العدالة الاجتماعية.
وبدلًا من الوحدة والتحرّر، شهدنا حروبًا أهليةً من لبنان إلى الجزائر، ومن العراق إلى سوريا واليمن وليبيا والسودان. هذه الحروب التي هي وليدة ممارسات الأنظمة التي لم تكن ترى في المواطنين سوى جماعات ما قبل الوطنية، مُعاديةً ومتناحرة.
سقطت الشعارات، وسقطت الممارسة السياسية المبنية على الحقوق والاعتراف بحقّ المواطن بالاعتراض وتبنّي آراء لا تتّفق مع رأي السلطة أو الحكومة.
أظهرت تجارب 2011 أنّ الافتقار إلى البرامج والقيادة الحكيمة هو افتقار إلى معرفة المجتمعات معرفة علمية وبحثية
ما نحتاجه اليوم هو إعادة الاعتبار للسياسة التي تُبنى على ثقافة القانون العام الذي يضمن الحقوق للمواطنين. وذلك أنّه منذ هزيمة حزيران 1967، أصبح الصراع هو بين سلطةٍ أعلنت حالة طوارئ دائمة، وبين الإسلاميين وتنظيماتهم على تنوّعها، من سوريا إلى مصر إلى الجزائر إلى تونس...
كان الإسلاميون الذين ينتمون إلى تياراتٍ متباينةٍ، يُجمعون على إقامة دولة الشريعة، من دون أن يملكوا برامج حقيقيّة للنهوض. وقد تأكّد ذلك بعد ثورات 2011 والتي لم تَعِشْ الهزيمة، ولكنّها تلقّت نتائجها. نزل المواطنون إلى الشارع نتيجة فقدان الأمل والشعور بالمهانة، فرفعوا شعارات العيش والحرية والكرامة، التي تعني الخبز للفقراء والمُعدمين ضحايا النظام، والحرية للمواطن، واستعادة كرامته المهدورة. وعلى الرَّغم من صوابيّة الشعار الذي تردّدت أصداؤه في كل العواصم الثائرة، إلّا أنّ هؤلاء الثائرين في الشارع كانوا يفتقرون إلى القيادة وإلى البرنامج. وفي البلدان التي شغل الإسلاميون الفراغ السياسي، أظهرت التجارب فشلهم، الأمر الذي سهّل على السلطات وأجهزتها أن تستعيد المبادرة، بعد أن شتّتت المتظاهرين بالخديعة والوعود أو بالقمع.
أظهرت تجارب عام 2011، التي هي ردّ فعلٍ متأخّرٍ على كلّ الهزائم منذ عام 1967، أنّ الافتقار إلى البرامج والقيادة الحكيمة هو افتقار إلى معرفة المجتمعات، معرفةً علميةً وبحثية. فقد تدهور العِلم الجامعي خلال العقود الأخيرة، وما زال يتدهور في كلّ المجالات.
المهمّة الملحّة هي تكوين ثقافة سياسية تُسهم في بناء جيل يتبنّى أفكار الديموقراطية وتداول السلطة واحترام التعدّدية
وما يعنينا ليس ضعف الإنتاج في مجال العلوم الرياضية والتطبيقية على أهميتها، والعالم يتقدّم في هذه المجالات تقدّمًا مُذهلًا، فما يعنينا هو معرفة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية. ودفع الباحثين إلى الخوض في هذه الميادين لتبنّي الحاجات التي يفتقر إليها عالمنا العربي، وآفاق التعاون بين البلدان العربية وخصوصًا في مجالات التجارة البينية والتكامل الاقتصادي.
لكنّ المهمّة الملحّة هي تكوين ثقافةٍ سياسيةٍ تُسهم في بناء جيل جديد، يتبنّى أفكار الديموقراطية وتداول السلطة وحرية العمل السياسي وحرية الرأي واحترام التعدّدية الثقافية والإثنية والدينية.
فإذا كانت ثورات 2011 المُجهَضة ردًّا متأخرًا على هزائم الأنظمة، فإنّ التغيير لا بدّ أن يأتي على أيدي جيلٍ يتبنّى المبادئ الدستورية من أجل تخطّي الأنظمة التسلّطية والأحادية.
(خاص "عروبة 22")