الأمن الغذائي والمائي

تجارة المياه في العالم

على الرَّغم من أنّ متوسط نصيب الفرد عالميًا من المياه يبلغ 6450 مترًا مكعبًا من المياه، إلّا أنّها غير عادلة التوزيع بين أجزاء وسكان كوكب الأرض، وأنّ نحو ثلث سكان العالم يعانون إمّا من ندرة المياه بنصيبٍ أقلّ من ألف مترٍ مكعبٍ للفرد في السنة، أو من النّدرة المزمنة المُطلقة بنصيبٍ أقلّ من 500 مترٍ مكعبٍ للفرد في السنة. ومن المتوقّع أن تزيد المعاناة ويزيد معها عدد السكان الذين يعانون من النّدرة إلى أكثر من ذلك بحلولِ عام 2050 وتجاوزِ عدد سكان كوكب الأرض 9.6 مليارات نسمة.

تجارة المياه في العالم

تُعدّ المنطقة العربية الأكثر معاناةً من ندرة المياه حيث تعاني 19 دولة من إجمالي 22 دولة عربية من النّدرة المزمنة والنّدرة المطلقة، وأكثرها معاناةً دول الخليج ثم دول شمال أفريقيا والتي تمثّل الجزء الأكبر من صحاري أفريقيا الأشدّ جفافًا (أي البخر فيها يفوق الأمطار) وقحطًا (أي تراجع حادّ في الموارد المائية بشكل موقت أو اختفاء كلّ صور الماء فوق وتحت سطح الأرض) في العالم. وتُسيطر ست دول فقط على ما يقرب من نصف مياه العالم وهي البرازيل وروسيا والولايات المتحدة والصين وإندونيسيا وكندا. والنّدرة ليست مرتبطةً دائمًا بعدم وجود، أو شحّ، المياه الطبيعية، ولكن كثيرًا ما تتوافر المياه بكمّيات تفوق حدود النّدرة، ولكنّها لا تجد الإمكانيات الاقتصادية ولا المؤهلين تقنيًا لتوصيل هذه المياه إلى منزلي وحقلي ومصنعي، وهو ما يُطلق عليه النّدرة الاقتصادية والتقنية.

الدول العربية تستورد المياه على صورة منتجات وسلع وخدمات

واستحدثت المنظمات الأمميّة مؤخّرًا ما يُطلق عليه "بصمة المياه" والتي تعتمد على مصدر المياه التي يتمّ استخدامها في مختلف نواحي الحياة من استهلاك منزلي وزراعة وصناعة وطاقة وحفاظ على البيئة. "المياه الخضراء" هي المياه التي إذا سقطت على الأرض والجبال والصخور جعلتها خضراء والمقصود بها مياه الأمطار وما يتمّ حصاده منها سواء في خزّانات أرضية أو مجارٍ سطحية. بينما "المياه الزرقاء" هي المياه التي تعكس لون السماء الأزرق وهي مياه الأنهار والبحيرات العذبة وحتى المياه الجوفية ومياه العيون اعتمادًا على المياه التي تروي الحقول والبشر والمصانع والبيئة. ثم تأتي أخيرًا بصمة "المياه الرمادية" أي مياه المخلّفات التي تتمّ معالجتها للاستفادة منها وتشمل مياه الصرف الزراعي والصحي والصناعي. ويعتمد الإنتاج الزراعي للغذاء على الماء الأخضر للأمطار بنسبة 83%، بينما لا يُمثّل الماء الأزرق للريّ أكثر من 17% ولكنه يُنتج 40% من غذاء العالم، وتمثّل المياه الجوفية المُستخدمة في الزراعة نحو 40%.

كما تمّ استحداث مصطلح "الماء الافتراضي" أيًّا كان مصدره أخضر أم أزرق أم رماديًا، وهو الماء المستخدم في إنتاج الغذاء والسلع والخدمات والمواد الخام والدواء، والذي يتمّ تصديره من مكان إنتاجه إلى مكان استهلاكه أو تصنيعه. بمعنى أنّ الدول العربية على سبيل المثال عندما تستورد القمح والأرز والبقول والسكر وزيوت الطعام وذرة الأعلاف واللحوم ومنتجات الألبان فهي في حقيقة الأمر تستورد مياهًا. والأمر نفسه ينطبق على استيراد المنسوجات والمواد الخام للصناعة والدواء أو حتى المواد المصنّعة أو المُخلقة، لأنّ الأمر ببساطةٍ أنّه لو كان لدى الدول العربية المياه الكافية لأنتجت غذاءها وكساءها ودواءها وسلاحها ومصنوعاتها، ولكنّها في حقيقة الأمر تستورد المياه على صورة هذه المنتجات والسلع والخدمات.

حساب الماء الافتراضي ينبغي أن يكون طبقًا للكميات التي يستهلكها في الدول التي نستورد منها

وللإيضاح فإذا كان إنتاج طنّ القمح في المنطقة العربية يحتاج إلى ألف مترٍ مكعبٍ من المياه فهذا يعني أنّنا نستورد طنًّا من المياه من دول الوفرة المائية عند استيراد كلّ طنّ من القمح، وذلك لمعالجة ندرة المياه التي نعاني منها. وإذا كانت رأس الماشية تستهلك خمسة آلاف مترٍ مكعبٍ من المياه حتى تصل إلى وزن الذبح، فإنّ استيراد رأسٍ من الماشية يعني في حقيقة الأمر استيراد خمسة آلاف مترٍ مكعبٍ من المياه لا نملكها لتربية هذه المواشي ولذلك نستوردها كلحوم. كما أنّ إنتاج الحذاء الواحد المُصنّع من الجلد الطبيعي للماشية يستهلك نحو 8 آلاف ليترٍ من المياه حتى يتمّ تصنيعه ويصل إلينا.

وتمّ مؤخّرًا تعديل حسبة هذه الكمّيات من المياه الافتراضية اعتمادًا على أنّنا كبلاد حارّة نستهلك مياهًا أكثر في إنتاج الغذاء من البلاد الباردة، وبالتالي فإنّ إنتاج القمح في روسيا الباردة أو أوكرانيا سوف يستهلك مياهًا أقلّ من إنتاجه في مصر أو لبنان أو العراق أو الجزائر أو المغرب وباقي الدول العربية الحارّة المُناخ. وبالتالي، ينبغي عند حساب الماء الافتراضي أن يكون طبقًا للكمّيات التي يستهلكها في الدول التي نستورد منها هذا القمح وليس طبقًا لبلادنا العربية الجافّة والحارّة. وبهذا، تقلّ كمّيات الماء الافتراضية التي نستهلكها إلى النّصف، عندما نستورد الغذاء والسلع من المناطق الباردة، فاستيراد طنّ من القمح قد يُعادل استيراد 500 مترٍ مكعبٍ فقط من المياه بدلًا من ألف مترٍ مكعب.

شعار المرحلة المقبلة هو إنتاج غذاء أكثر من مياه أقلّ

وعلى هذا، فقد وضعت منظّمات الأمم المتحدة للمياه أو للأغذية والزراعة أو لأبحاث الغذاء أو للدعم وتطوير الإنتاج الزراعي، مجموعةً من الخرائط لجميع دول العالم توضح ما تستورده كلّ دولة من الماء الأخضر ومن الماء الأزرق طبقًا لمُناخ الدول المصدّرة واعتمادها في الزراعة على الأمطار أو على الريّ. وعلى ذلك، فإنّ الماء الافتراضي هو مصطلح للربط بين الماء والغذاء والتجارة، ويُقصد به كمية المياه التي يتضمّنها ويستهلكها الغذاء والمنتجات من أجل إنتاجها، أي أنّ الماء الافتراضي هو حجم المياه المطلوب لإنتاج السلع والخدمات والتي تُستهلك بفعل البشر وتدخل في التجارة العالمية.

هذا الماء الافتراضي سيزيد استيراده في المنطقة العربية شحيحة المياه خلال السنوات المقبلة، فاستهلاكنا من القمح عام 2050 سوف يتضاعف، واستهلاكنا من اللحوم سوف يتضاعف 3 مرات، والاستهلاك المنزلي والمحلّيات (المدارس والجامعات والمستشفيات والمباني الحكومية...) والصناعة سوف تزيد بنسبة 18%، كما أنّ استهلاك العالم من المياه سوف يزيد بنسبة 32%. المشكلة الأكبر أنّ احتياجات العالم من الغذاء بالزيادة السكانية قبل نهاية هذا القرن سوف تزيد بنسبة 60%، ولكن ينبغي أن يكون من 30% فقط زيادة في المياه، بمعنى أنّ شعار المرحلة المقبلة هو إنتاج غذاءٍ أكثر من مياهٍ أقلّ وهي معادلة صعبة للغاية، إذا علمنا أنّ الموارد المائية للعالم ثابتة ولا تزيد، وهي الموارد نفسها التي كانت موجودةً منذ ألفَيْ عام حين كان عدد سكان العالم نحو 3% من التعداد الحالي!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن