من النادر حقًا أن يختار إنسان ما وطنه أو أن ينتقي البلد الذي يريد أن ينتمي إليه وإلى شعبه، لكن الأمر يختلف بالنسبة للشاعر الراحل فواد حداد، رائد شعر العامية المصرية، الذي اختار ما هو أكثر بكثير من ذلك.
حداد، المولود لأسرة شامية عام ١٩٢٧م في قاهرة المعز، اختار أن ينتمي للبلد الذي ولد على أرضه وأن ينحاز إلى بسطائه وفقرائه رغم نشأته في أسرة ميسورة الحال، وأن يؤمن بالعروبة ويبشّر بها رغم تلقيه تعليمًا فرنسيًا في صباه.
كان أوج تمرّد حداد على ظروف نشأته حين تبنّى أفكار اليسار الاشتراكي المؤمن بالعدالة الاجتماعية وهو مبدأ طبّقه حداد عمليًا ولم يكتفِ بالتنظير له.
وأوّل ما طبّقه الشاعر كان على ذاته، حيث قرر الإقامة في أحياء القاهرة الشعبية مثل حيّ الإمام الشافع،٫ واندمج بشكل مدهش وسط بسطاء تلك الأحياء والتقط تفاصيل حياتهم التي صاغها فيما بعد شعرًا.
وتجلّى ذلك في دواوين حداد الأولى مثل "بقوة الفلاحين وبقوة العمال" الذي أتى معبّرًا عن هذا الانحياز الاجتماعي وعن إيمان الشاعر التام بهذه الفئات وقدرتها على التغيير:
"بقوة الفـلاحين وبقـوة العمّـال
وبقوّة الـدم سـايل والعـرق سيـّال
وبقوة الأرض حـامل من ليالي طـوال
وبقـوّة القلب يتجمّع نسـا ورجال
بقوة الأمهـات وبقوة الأطفـال"
والإيمان بالعدالة الاجتماعية عند حداد لا ينبع فقط من انحيازه لليسار وإنما أيضًا من اقتناعه التام وفهمه العميق للعقيدة الإسلامية التي اعتنقها ولم يرَ أيّ تناقض بينها وبين الفكر الاشتراكي، بل على العكس رأى تكاملًا جوهريًا بين الاثنين، وعبّر عن ذلك في قصائد صاغها خلال فترة اعتقاله في خمسينات القرن العشرين:
"أنا ساكن البرج والتهمة سياسية
مع النبي قلت كل الناس سواسية"
والعدل الاجتماعي عند حداد يتجسّد في شخص الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الذي خصّص له قصيدة كاملة في رائعته "المسحراتي":
"قامت قيامة، من اليتامى، لما ظهر
أبو المواجع، كأنه راجع، من السفر،
جاب المؤونة بإيدين حنونة، وقال يا مضر،
أنا عليَّ تخدم ايديَّ، بدو وحضر"
وفي الديوان ذاته، والذي تحوّل على مدار سنوات إلى برنامج إذاعي ناجح اجتمعت فيه كلمات حداد مع ألحان الموسيقار المصري الراحل سيّد مكاوي، جعل الشاعر من شخصية "المسحراتي" التراثية رمزًا يتجاوز دوره مجرّد إيقاظ النائمين في شهر رمضان لتناول السحور، بل إنّ المسحراتي عند حداد هو عاشق يجوب شوارع وحارات محبوبته مصر ويتغنّى بتاريخها الذي يحفظه عن ظهر قلب:
"يا مصر يا واحة مسعدة
نطقت والفجر كان صدى
حتى الشجر في الحجر شدا
لما بدأت التاريخ بدا"
ولأنّ حداد وطني مصري بامتياز، فإنه يدرك أنّ الوطنية المصرية تعني أيضًا أن تكون قوميًا عربيًا، فمصر ليست جزيرة معزولة في بحر ولكنها قلب الأمة العربية:
"الإنسانية أم الفدا،
أم الحضارة يا والدة،
ضميت الأزهر والسيّدة"
والعربي في عُرف حداد هو إنسان يحمل رسالة أوجبتها عليه العقائد السماوية التي تنزّلت على أرضه وكذلك أوجبتها تقاليده المتوارثة منذ الأزل:
"لما تقول أجمل ما في الدنيا المية للعطشان،
يعرفوك عربي،
لما تقول ابني اتولد لاجئ،
يعرفوك عربي،
لما تقول يا رب،
يعرفوك عربي،
لما تباشر جهادك،
ترمي أوتادك،
في قلب دابح ولادك،
يعرفوك عربي"
وهذا الإيمان التام بالعروبة هو ما يجعل من فلسطين قضية حاضرة دائمًا وبشكل مستمر ومتكرّر في شعر حداد، بل إنه يجعل منه قضيته المركزية وشغله الشاغل:
"ولا في قلبي ولا عينيّ إلا فلسطين
وأنا العطشان ماليش ميّه إلا فلسطين
ولا تشيل أرض رجليّ
وتنقل خطوتى الجاية
إلا فلسطين"
وهو يؤمن تماماً بأنّ المقاومة وحدها هي السبيل لاسترداد الأرض المغتصبة ولا يرى سواها سبيلًا، ولذلك فلا بدّ أن تبقى جذوة المقاومة مشتعلة دائمًا في صدور أبناء الأمة:
"حيفـــــــــــــــا ورام الله
ومــن الجـــليل عليــــاه
لا تعيــــــد علـــــيَّ الآه
عـــادت علـــيَّ ســـنين
هـــــــذا أوان التـــــــين
لعـــب التـــراب بـــالنور
رجـع الصــدى المبــهور
بـين الزيتــون والكرمة
لازم تعـــيش المقاومــة"
وهو يؤمن تمامًا بنصر الأمّة القادم لا ريب، خاصة إذا ما توحّدت صفوفها وواجهت عدوّها المشترك مجتمعة، عندها سيكون يوم التحرير الذي سيماثل إن لم يفق ما حدث في ثورتي مصر والجزائر:
"حيكون يوم زي تلاتة وعشرين
من شهر يوليه تموز
حيكون يوم زي الفاتح
من شهر زي نوفمبر
والدنيا كل الدنيا حتكبر
في صف واحد من تمام الصلاة".