بصمات

"الذُّبابُ الإلكترونيُّ" وَالقرارُ الْأُمَمِيّ!

أَثَرْتُ الانتباهَ، في حديثٍ سابق، إلى أنَّ نظامَ الشبكةِ الْعَنْكَبوتِيَّةِ وتَنامِيَ تطوّرِ وسائلِ الاتّصالِ المعلوماتيّ أَحْدَثَا قاموسًا لغويًا جديدًا قِوامُهُ مفرداتٌ ورموزٌ (أيقوناتٌ) دقيقةُ الدلالةِ، ومُصطلحاتٌ تُعينُ نَمَطَ الكتابةِ وتُنظّمُ كيفيّاتِ التواصلِ داخلَ العالمِ الافْتِراضِي. وَأَضَفْتُ، سعيًا للتوضيحِ، أنَّ هذا القاموسَ المُبْتَكَرَ يُشَكِّلُ منظومةً شاملةً من المُصْطَلَحاتِ يَجِدُ فيها كلُّ مُصطلحٍ معنًى دقيقًا ودلالةً يُلْتَمَسُ الفهمُ فيها من المنطقِ الذّاتيّ الذي يَحْكُمُ الشبكةَ العنكبوتيةَ لا من غيرِهِ وتُقَنَّنُ كيفيّاتُ التبادلِ بين المتواصلينَ في عالمِها. ثمَّ إنّي، لمزيدِ توضيحٍ، أَشرْتُ إلى "المُؤَثِّرينَ"، وَ"التّابِعينَ"، وكذَا إلى "اللّايْكاتِ" و"الشّيراتِ" (أو "الجيمِ" و"التَّشارُكِ"، بالنسبةِ لِلمُسْتَعْمِلينَ من منطقةِ المغربِ العربيّ خاصّة).

أَجِدُنِي، في حَديثِي اليومَ، في حاجةٍ إلى تأكيدِ ما قُلْتُهُ عن المُؤَثِّرِ (influencer) وعن الصِّلَةِ بَيْنَ العملِ الذي يقومُ بهِ وبينَ الكيفيّةِ التي يتمُّ بِها التلقِّي عندَ "التّابِعِ" (follower)، والقَصْدُ عندِي، جملةً، هو التنبيهُ إلى أنَّ العلاقةَ بين المؤثّرِ والتّابعِ تَحْكُمُها ضوابطُ قابلةٌ للفَهْم.

أوّلها الحاجةُ، من قِبَلِ الجهةِ الخَفِيَّةِ، إلى صياغةِ رأيٍ عامٍ على نحوٍ مُحَدَّدٍ، ولهذَا الغرضِ كانتِ الجهةُ الخفيّةُ تسعَى دومًا إلى "صناعةِ المُؤثّرِ" فهي تقفُ خَلْفَهُ وتُسْنِدُهُ وتُشَغِّلُهُ لأغراضٍ ليسَ من الضروريّ لَها أنْ يَعْلَمَها. لا شيءَ في عالمِ الشبكةِ يحدثُ عفوًا، مَعَ ما قدْ يَبْدو من أسبابِ العَفْوِيَّةِ ومظاهرِها، بل كلُّ شيءٍ يرجعُ إلى تدبيرٍ خفيّ وإلى استفادةٍ، سياسيةٍ كانت أو إيديولوجيةٍ أو اقتصاديةٍ أو تجاريةٍ وغيرِ ذَلِك.

للحرب وجهٌ تحرص الجهات المتصارعة على التستّر عليه حرصًا على التَّفَنُّن في مخاطبة الغرائز

قدْ لا يَخْلو الأمرُ، أحيانًا غَيْرَ قليلةٍ، من صراعٍ خفيّ بين قُوًى فعليةٍ، قويةٍ حقًّا، تعرفُ بعضَها البعضَ فهيَ تخوضُ حربًا بالوكالةِ وقدْ يَعْرِفُ الفاعِلونَ المُباشِرونَ عَنْها شيئًا في حينِ أنَّ أشياءً أخرَى تغيبُ عنهم فَهُمْ جنودٌ مُسَخَّرونَ، فالحالُ حربٌ قِوامُها التكنولوجيا الرّقميةُ المتطوّرةُ وعَتادُها الذكاءُ الاصطناعيّ والإمكاناتُ الهائلةُ التي يُتيحُها منطقُها وأساليبُها المُتحوّلةُ بِاسْتِمْرَار.

ولا أَحْسَبُ أنَّهُ يَخْفَى على أحدٍ أنَّ للحربِ، إذ تستعرُ بين جِهَتَيْنِ أو أكثرَ، وجهًا مكشوفًا يُدركُهُ كلُّ أحدٍ، مِثْلَما أنَّ لَها وجهًا آخرَ تحرصُ الجهاتُ المتصارعةُ على التستّرِ عَلَيْهِ وعلى تجميلِهِ بالمساحيقِ، حِرْصًا على إذكاءِ فضولِ "التّابع" وعلى التَّفَنُّنِ في إثارةِ مُختلفِ أشكالِ الإثارةِ، ومنها مخاطبةُ الغرائزِ والرغباتِ التي تتوقُ إلى الإِشْباع. وكلُّ هذهِ الأمورُ تُشَكِّلُ، باجتماعِها، ضابطًا ثانيًا يُقَنِّنُ منطقَ العلاقةِ بينَ المؤثّرِ والتّابِع. وقاموسُ الشبكةِ يجعلُ لفئةِ "المؤثّرينَ" المُسَيَّرينَ تَسْييرًا مُباشِرًا (أشخاصٌ فعليّون ومواقعُ مُسيّرةٌ، أو هُما معًا) مُصْطَلَحًا جديدًا هو "الذُّبابُ الإِلِكْتْرونِيّ".

أمّا "القرارُ الأمميّ" فإنّي أقصدُ بهِ، تحديدًا، ذاكَ الذي صدرَ عن مجلسِ الأمنِ يومَ 31 أكتوبرْ/تشرينَ الأول المنصرمِ تحتَ رقمِ 2797 المتعلّقِ بالنّزاعِ القائمِ بينَ المغربِ وبينَ المُعترضينَ على استكمالِ وحدتِهِ التُّرابِيَّةِ الجنوبيَّة. وفي توضيحٍ قصيرٍ للقرارِ، حَيْثِيّاتٍ ومَضْمونًا، نذكرُ أنَّ المُصادقةَ على القرارِ قد تمّتْ بتأييدِ 11 دولةً من أعضاءِ مجلسِ الأمنِ الخَمْسَةَ عَشَرَ، وبامتناع ثلاث دولٍ عَنِ التصويتِ (روسيا، الصين، باكستان)، في حينَ أنَّ الجزائرَ - وهيَ حاليًّا من الأعضاءِ المُؤَقَّتينَ لمجلسِ الأمنِ - اخْتارَتْ نهجَ الإِمْساكِ عنْ المشاركةِ في التَّصْوِيت. وخُلاصةُ القرارِ التزامُ المغربِ بتطبيقِ مبدأِ الحكمِ الذّاتيّ على الأقاليمِ الصَّحْراوِيَّةِ (من الجنوبِ المغربيّ) في ظلِّ السيادةِ المغربيةِ وفي احترامٍ تامٍ لرُموزِ السِّيادَةِ، كَما هوَ متعارفٌ عَلَيْها وكمَا تسيرُ عليهِ الأمورُ في الدولِ التي تأخذُ بهذَا المبدأِ (إسبانيا، إيطاليا وغيرِهما).

مَنْ تلكَ الرُّموزِ العَلَمُ، والعُملةُ الوطنيةُ، والقضاءُ، ومنها، بالنسبةِ للمغربِ تحديدًا، إمارةُ المُؤْمِنينَ، ومِنْها تدبيرُ الشؤونِ الخارجيةِ، والدفاعُ الوطنيّ وشؤونُ الأَمْن. ويَعْنِي الحكمُ الذّاتيّ في منطوقِ القرارِ، وكَما يلتزمُ به المغربُ في مُذكَّرَةٍ مُقَدَّمَةٍ إلى الأمينِ العامِّ للأممِ المتحدةِ: التدبيرُ المحلّيّ للشؤونِ العامةِ (إدارةٌ حكوميةٌ محليةٌ، برلمانٌ محلّيّ مُنتخبٌ)، فضلًا عن تدبيرِ الشؤونِ الاقتصاديةِ المحلّيةِ، في تنسيقٍ مع الحكومةِ المركزيّةِ، في ظلِّ السيادةِ المَغْرِبِيَّة.

في مقابل بلورة تصوُّر عصريّ للحكم الذاتيّ على الأقاليم الصحراوية تتدافع أسراب "الذّباب الإلكترونيّ" في اتجاه الرفض

مَا يَسْتَرْعِي الانتباهَ هوَ أنَّ الجزائرَ، بٍحِسْبانِها، طبقًا للقرارِ المُصادَقِ عليهِ، دولةٌ معنيةٌ لم تَرْفُضْ القرارَ فهيَ لمْ تعترضْ عليهِ في المجلسِ الذي هيَ عضوٌ فِيه. وبالنسبةِ لَنا، نحنُ العربُ، تَحَقَّقَ الإجماعُ العربيّ التامُّ حولَ قضيةٍ أَقّضَّتْ مَضْجَعَ العالمِ العربيّ خمسينَ سنةً كاملةً، ثلاثونَ منها توقّفَ فيها السَّيْرُ في اتجاهِ تشييدِ المغربِ العربيّ الكبيرِ وسادَ الأجواءَ توترٌ وشكٌ وهدرٌ للمالِ والطاقةِ، بلْ وللأرواحِ لا مُبَرِّرَ لَها.

في مُقابِلِ الجهودِ المضنيةِ التي بذلَها مجلسُ الأمنِ من جانبٍ، وما سارَ عليهِ المغربُ في بَلْوَرَةِ تصوّرٍ عصريّ إيجابيّ لحكمٍ ذاتيّ وحالٍ تَصْفو فيها الأجواءُ فَتَمْتَدُّ الأَيادِي بالمُصافَحةِ ويَعْلو شعارَ "لا غالبَ ولا مغلوبَ"، تتدافعُ في وَجْهِ القرارِ أسرابٌ، بلْ وأساطينُ من "الذّبابِ الإلكترونيِّ" تدفعُ في اتجاهِ الرفضِ والتشكيكِ بلغة التخاطبِ إلى أَدْنَى درجاتِ السِّباب.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن