قرأنا لبعض الأقلام هجومًا شديدًا على ما سمّي بـ"جمهورية القضاة" باعتبارها ألغت نظام الفصل بين السلطات الذي هو مرتكز المنظومة الديموقراطية الليبيرالية، وجعلت من القاضي بديلًا من الناخب الذي هو وحده مصدر الشرعية في المجتمعات الحرّة المفتوحة.
الأنظمة الاستبدادية التسلّطية لا ترى في القضاء إلّا أداة من أدوات التحكّم والهيمنة
في الولايات المتحدة الأميركية حالة مماثلة، فلا حاجة إلى التذكير أنّ الرئيس دونالد ترامب تعرّض لملاحقات قضائية طويلة كادت أن تقضي على مستقبله السياسي، وهو اليوم يواجه معارضةً قويةً من المؤسّسة القضائية التي أعاقت عددًا من سياساته وقراراته المُثيرة للجدل.
في أميركا اللاتينية، تكرّست عادة سجن الرؤساء السابقين، وآخرهم الرئيس البرازيلي السابق خايير بولسونارو (Jair Bolsonaro) بعد أن مرّ الرئيس الحالي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا (Luiz Inácio Lula da Silva) بالمحطة نفسها.
لا نتحدّث هنا عن توظيف القضاء في المجال السياسي لملاحقة الخصوم والأعداء، كما هو الشأن في الأنظمة الاستبدادية التسلّطية التي تنتهك في الحقيقة مقاييس الحرية والديموقراطية، ولا ترى في القضاء إلّا أداة من أدوات التحكّم والهيمنة. بل نتحدّث عن الاتجاه المتزايد في الديموقراطيات الكبرى المستقرّة لتحميل القضاء وظائف وأدوارًا سياسيةً غير تقليدية.
نلمس هنا عمق الحوار المُتجذّر في المجتمعات الديموقراطية حول أوجه الارتباط بين المنافسة الانتخابية التي هي إطار الشرعية السياسية في سياقٍ متعدّدٍ ومتنوّعٍ وحرٍّ، ودولة القانون التي هي الحصن الضامن لقيم ومعايير الديموقراطية والتعدّدية وإن كانت خارج ضوابط الانتخاب والمنافسة في أغلب بلدان العالم.
فكرة استقلال السلطات العمومية الثلاث والتوازن المُحكم بينها هي نقطة انطلاق المنظومة الديموقراطية، وقد تبلورت في عصور الأنوار الأوروبية، على يد الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو (Montesquieu) خصوصًا، لكنّها ظلت دومًا عصيّةً على الضبط والتجسيد.
تضخّم دور القاضي في المجتمعات الديموقراطية فأصبح مسؤولًا عن حماية قيم الشفافية والعدالة والشرعية
الإشكالية هنا تتمثّل في ضبابية وغموض منزلة الحاكم التنفيذي في المجتمعات الديموقراطية، فهو من جهةٍ قائد منتخب يتمتّع بالشرعية الكاملة، لكنّه من حيث التصوّر من جهةٍ ثانية ليس سوى موظفٍ عموميّ سامٍ يُطبّق قوانين يُصدرها المجلس النيابي تحت رقابة القضاء المخوّل بسلطاتٍ مطلقةٍ لا قيود عليها.
عُرف هذا الجدل في ثلاثينيّات القرن الماضي بالصدام بين النزعة الوضعية التي ترى في النسق القانوني مرجعيةً عليا للدولة لا سبيل للانفكاك عنها، والنزعة القرارية الأمرية التي لا ترى في القوانين سوى أثر من آثار السلطة التنفيذية المتمتّعة بأهلية الاستثناء التي هي المضمون الحقيقي للسيادة (أطروحة الفيلسوف والقانوني الألماني كارل شميت - Carl Schmitt).
اليوم، مع انهيار الوسائط السياسية الكبرى التي كانت الضمانة المحورية لصحة المجتمعات الديموقراطية (الأحزاب والتجمّعات المهنية والنقابية)، تضخّم دور القاضي الذي أصبح مسؤولًا عن حماية قيم الشفافية والعدالة والشرعية التي لا ديموقراطية حقيقية من دونها.
سياسات اليمين الشعبوي تنتهك حقوق الإنسان وتتعارض مع أساسيّات المنظومة الليبيرالية
بَيْدَ أنّ هذا الدور المُتزايد للقضاء ولّد إشكالاتٍ عمليةً جديدةً، في مقدمتها تقييد قرار الحاكم التنفيذي الذي غدا عاجزًا عن تطبيق البرامج والخطط التي انتخبه الشعب من أجل إنجازها. لكن ماذا لو تعارضت هذه التعهدات الانتخابية مع المرجعية القانونية والمعيارية للعمل السياسي، كما هو شأن بعض سياسات اليمين الشعبوي التي تنتهك حقوق الإنسان وتتعارض مع أساسيّات المنظومة الليبيرالية؟.
قبل سنوات، درس عالم السياسة والاجتماع الفرنسي بيار روزانفالون (Pierre Rosanvallon) أزمة الشرعية في الديموقراطيات الليبيرالية المعاصِرة، مُبيّنًا أنّ المسطرة الانتخابية بزمنيّتها الدورية لم تعد قادرةً على حلّ مأزق الشرعية في المجتمعات الرّاهنة، ومن هنا الانتقال إلى دوائر جديدة للشرعية من بينها مؤسسات الضبط الدستوري التي غدت لها مسؤوليات جسيمة في العمل السياسي.
ما أشار إليه روزانفالون هو التحوّل الأبرز الذي له أثره النوعي في مستقبل المسألة الديموقراطية نفسها.
(خاص "عروبة 22")