العرب وتحديات الذكاء الاصطناعي

من مستهلك إلى مُبتكر: كيف يفتح الذكاء التوليدي آفاقًا للشباب العربي؟

يشهد العالم اليوم ثورةً رقميةً غير مسبوقةٍ تقودها تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، وهي قادرة على إنتاج نصوص وصور وأفكار جديدة انطلاقًا من كمّيات هائلة من البيانات. والعالم العربي بدوره يسعى لمواكبة هذه التحوّلات بما يفتح أمام الشباب آفاقًا واسعةً للدخول إلى سوق العمل الرقميّة وتأسيس مشاريعهم الخاصّة، فضلًا عن الاستفادة من خدمات أكثر تطورًا وفعّالية. غير أنّ هناك مفارقةً أساسيةً يجب التوقّف عندها، وبيان ذلك أنّه على الرَّغم من أنّ الناطقين بالعربية يزيد عددهم على 400 مليون شخص ويشكّلون أكثر من 5.1% من سكان العالم، فإنّ المحتوى الرقمي العربي لا يتجاوز 1% من مجموع المحتوى على الشبكة، حسب تقرير حديث أصدرته الأمم المتحدة (الإسكوا - 2025).

من مستهلك إلى مُبتكر: كيف يفتح الذكاء التوليدي آفاقًا للشباب العربي؟

هذه الفجوة الرقمية تعني أنّ النّماذج اللغوية العالمية التي يعتمد عليها الذكاء التوليدي قد تعجز عن تمثيل واقعنا العربي بكلّ تنوّعاته اللغوية والثقافية. لكنّ هذا الضعف لا ينبغي أن يُنظر إليه كعائقٍ فقط، بل يُمثّل أيضًا فرصةً استراتيجيةً للشباب العربي: فمن خلال إنتاج محتوى عربي متنوّع وتدريب النماذج على بياناتٍ محليةٍ، يُمكن تعزيز حضور اللغة العربية وضمان أن تكون هذه التقنيات أقرب إلى ثقافتنا واحتياجاتنا.

في الوقت الحالي، تعتمد معظم النّماذج اللغوية الكبيرة على اللغة الإنجليزية، التي تشكّل ما بين 50 و70% من إجمالي المحتوى المُتاح على الإنترنت، بينما لا تتجاوز العربية 1%. هذا الخلل ينعكس على قدرة الناطقين بلغاتٍ أخرى - ويقدَّر عددهم بنحو 1.5 مليار إنسان - على المشاركة الفاعلة في إنتاج المحتوى الرقمي العالمي.

تطوير ذكاء توليديّ عربيّ قادر على التعامل مع اللهجات المحلية يُسهم في تحسين الخدمات للمستهلكين

ولمواجهة هذا التحدّي، بدأت مبادرات عربية مهمّة في الظهور في السنتَيْن الأخيرتَيْن. ففي عام 2024، ظهر مشروع "G42" الذي ترعاه جامعة "محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي" وهو يهدف لتطوير نموذج لغوي عربي مُلائم للتنوّع اللغوي العربي. كما أطلقت قطر مشروع "Fanar" لتدريب الخوارزميات على نحو 400 مليار كلمة عربية بمختلف اللهجات. أمّا المملكة العربية السعودية فقد أعلنت في مايو/أيار 2025 عن مشروع "Humain" بقيمة 40 مليار دولار لتطوير البنية الأساسية لذكاء توليديّ عربيّ وتعزيز القدرات في المنطقة والعالم.

إنّ من شأن تطوير ذكاءٍ توليديّ عربيّ قادرٍ على التعامل مع اللهجات المحلية، أن يُسهمَ بشكلٍ مباشرٍ في تحسين الخدمات للمستهلكين، إذ سيتمكّن الناس من التعبير عن رغباتهم وطلباتهم بلغاتهم اليومية، بينما يوفّر الذكاء التوليدي إجاباتٍ دقيقةً وملائمة. وينطبق الأمر نفسه على الخدمات الحكومية والإدارية والصحية، حيث ستصبح أكثر فاعليةً وسرعةً إذا جرى تطوير نماذج عربية تفهم سياقات المواطنين وتتنوّع بحسب حاجاتهم المختلفة.

هذا التطوّر سيفتح المجال أمام وظائف جديدة في مجالات اللسانيّات وتحليل اللغات المختلفة، إضافةً إلى فرص واسعة لإطلاق شركات ناشئة. ويُشير تقرير الإسكوا إلى أنّ السعودية والإمارات تقودان استثماراتٍ مُتناميةً لدعم هذا القطاع، إذ وصل عدد الشركات الناشئة في المنطقة إلى نحو 1800 شركة في 2024 بقيمةٍ استثماريةٍ قاربت 13 مليار دولار، مع اتجاهٍ واضحٍ نحو تطوير نماذج لغوية عربية كبيرة تعكس اللغات المستخدمة في العالم العربي.

من المنتظر أن ينعكس تطوير هذه النماذج إيجابًا على التعليم، حيث سيتمكّن ملايين الأطفال والشباب من التعلّم بلغاتهم المحلية وفي سياقات قريبة من بيئاتهم، ممّا يُعزّز فرص اكتساب المهارات الضرورية للاندماج في المستقبل الرقمي. كما يمكن لهذه التقنيات أن تساهم في إدماج شرائح واسعة من المواطنين في النظام المالي، إذ تُشير التقديرات إلى أنّ ما بين 50 و70% من العرب لا يمتلكون حسابات بنكية أو مالية. وبفضل حلول الذكاء الاصطناعي والخدمات المالية الذكية باللغات المحلية، يمكن توسيع نطاق الشمول المالي بشكلٍ غير مسبوق.

الذكاء التوليدي فرصة لإعادة رسم ملامح سوق العمل والخدمات في العالم العربي

غير أنّ هذه الفرص الكبيرة لا تخلو من تحدّيات، أبرزها نقص المهارات الرقمية. فحسب تقرير الإسكوا، يرى 63% من أصحاب الأعمال في المنطقة أنّ هذه الفجوة تمثّل عقبةً أساسيةً أمام تبنّي الذكاء الاصطناعي، ولهذا تخطّط 85% من الشركات للاستثمار في تدريب موظفيها على المهارات الجديدة. وهذا يضع أمام الحكومات والجامعات العربية مسؤوليةً كبرى لتوفير برامج تدريبية تُتيح للشباب مواكبة التحوّلات وتفادي اتساع الفجوة الرقمية.

إنّ الذكاء التوليدي ليس مجرّد أداة تقنية، بل فرصة لإعادة رسم ملامح سوق العمل والخدمات في العالم العربي. الأرقام واضحة: ملايين فرص العمل والمشاريع يمكن أن تتولّد من هذه الثورة الرقمية، لكنّ الاستفادة منها مرهونة بقدرة الشباب على اكتساب المهارات، وإرادة الحكومات والمؤسّسات لدعم الابتكار. المستقبل إذن مفتوح أمام الشباب الذين يُحسنون استخدام هذه الأدوات، فيحوّلونها من مجرّد تقنية عالمية إلى أداة عربية لصناعة الوظائف والخدمات، وبناء غدٍ أفضل لأنفسهم ولمجتمعاتهم وللعالم أجمع.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن