توقّفت أخيراً حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرّة منذ عامين. توقّفت بأمر أمريكي نتيجة أربعة عوامل. أوّلها ضغط حلفاء دونالد ترامب الأوروبيين عليه، بعد وصول الأمور إلى درجة من التوحّش لم يعد بوسعهم الصمت تجاهها، كما صمتوا أو تواطأوا خلال أكثر من عام ونصف. وضغطهم هذا سببه بدوره ضغط الرأي العام والمجتمعات المدنية الغربية التي تحرّكت على نحو غير مسبوق في العالم منذ حرب فييتنام والانتفاضات الطلابية الكبرى قبل أكثر من نصف قرن.
العامل الثاني، هو ضغط حلفاء ترامب الإقليميين، وتحديداً دول الخليج وتركيا، خاصة بعد الهجوم الإسرائيلي في الدوحة، الذي ولَو سبق أن سمح به ترامب نفسه (أو لم يعارضه)، فإنه أحرجه لاحقاً نتيجة فشله ونتيجة غضب قطر والسعودية من وقوعه ومن خطره على أمنهما الوطني كسابقة لا ضمانة لعدم تكرارها، في ظلّ عدم تشغيل الدفاعات الصاروخية التي اشتروها من الأمريكيين وأنفقوا عليها وعلى غيرها من العتاد الأمريكي عشرات المليارات من الدولارات.
والعامل الثالث هو إقرار الخبراء العسكريّين والأمنيين في واشنطن بأن استمرار الهجمات الاسرائيلية لم يعد على صلة بمعطى ميداني بقدر ما هو إصرار من بنيامين نتنياهو على مواصلة حربِه لأسباب ترتبط بحياته السياسية وديمومتها. وهذا بات مكلفاً سياسياً لترامب لبدء استياء جزء من قاعدته الانتخابية (جمهوريّين دون الـ40 من العمر تحديداً) من هول صوَر القتل والتجويع والتخريب واعتبار أن وقف ذلك ممكن وعدم القيام به تقصير من قِبل الرئيس الأمريكي.
أما العامل الرابع، فيرتبط برغبة ترامب الفوز بجائزة نوبل للسلام (التي فاز بها سلفه وعدوّه اللدود باراك أوباما) وتسجيل اسمه كصانع عالمي للاستقرار (يدّعي أنه أوقف سبعة حروب في أقل من عام، في حين أن بعضها لم يكن قائماً أصلاً). ولا ينبغي التقليل أبداً من المسألة الشخصية في علاقة ترامب مع الشأن العام وارتباط قراراته بمزاجه ورغباته التي يمكن ان تتأرجح وتتبدّل على نحو غير مألوف في العلاقات الدولية.
على أن توقّف هذه الحرب الإبادية التي فاقت في بربريّتها وساديّتها كل ما شهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية، بدا في اللغة الترامبية (الركيكة والفقيرة المصطلحات) حدثاً تقنياً أو لوجستياً لا سياسة فيه أو تليه، ولا أهمّية لمسار من بعده غير مسارِ إعادة إعمارٍ يريده مجالاً ينتفع منه رجال أعمال ومستثمرو عقارات من المقرّبين منه أو من شركائه الدوليين والاقليميين، مع طمع لا شك فيه بتملّك أراضٍيمكن لطمر البحر بآلاف أطنان الردم وباطون الأبنية المحطّمة أن يوفّرها.
وخطّة ترامب بهذا المعنى تبدو خطة إدارية عقارية، رغم خوضها بنزع سلاح حركة حماس وتعهّدها بانسحاب إسرائيل جزئياً من القطاع وعدم استئنافها الحرب بعد تبادل الرهائن والأسرى والمحتجزين بين الطرفين. وهي فوق ذلك إذ تولي مسؤولية الإشراف على ما تسميّها المرحلة الانتقالية إلى هيئة ينسّقها طوني بلير المتحوِّل منذ فترة من سياسي (شارك في انتهاك القانون الدولي خلال حرب العراق العام 2003 وما تخلّلتها من جرائم ضد الإنسانية يتحمّل والرئيس جورج بوش المسؤولية عنها) إلى رئيس معهد استشارات نشطٍ في بعض دول الشرق الأوسط، قد تجعل من المرحلة المذكورة مرحلة تقنية، مبتورة عن المسألة السياسية الفلسطينية وعن تقرير المصير، ومفصولة عمّا يجري وقد يجري في الضفة الغربية. ولن يكون مستبعداً أن تسعى إسرائيل هناك إلى استكمال عمليات التهجير وتوسيع الاستيطان ومحاولات الضم الفعلي لعدد من المناطق مستغلّة التركيزالترامبي على مشاريع إعادة الإعمار في غزة ومناقصاتها.
لكن في المقابل، يمكن القول إن بقاء الفلسطينيين في غزة، وهو ما لم يكن يريده ترامب في خطّته الأولى ـ مشروع الريفييرا – واضطُرّ للتكيّف معه لتمرير الخطّة الثانية، منع إسرائيل من تحقيق التعديل الجذري في الديموغرافيا الفلسطينية وتهجير أكبر عدد ممكن من الغزاويّين بعد قتل أكبر عدد ممكن منهم، ولو أن التحدي سيكون على المديين القصير والمتوسّط في مدى توفير ما يُعين الناس المتمسكّين بأرضهم على البقاء بالحدّ الأدنى بعد الإبادة العمرانية والبيئية وتلويث المياه، وبعد تدمير المدارس والجامعات والمستشفيات ومراكز الخدمات الاجتماعية. والرهان في هذا الباب هو على المنظمات الأممية والهيئات الدولية غير الحكومية وعلى بعض الدول العربية والإقليمية وعلى متموّلين فلسطينيين ومتطوّعين من العالم أجمع.
ويمكن القول، في المقابل كذلك، إن وقف حرب الإبادة قد يولّد ديناميات سياسية دولية جديدة، على النقيض من المُراد الترامبي، تضغط على البيت الأبيض وتُفشل فصل إدارة غزة عن الشأن الفلسطيني، فتربطه بمسار سياسي جدّي، خاصة إن استمرّت التعبئة الشعبية والتحركات في الدول التي اعترفت مؤخراً بفلسطين، وإن انطلقت مبادرات فلسطينية للخروج من حالة الشلل والانقسام والحسابات الخاطئة التي غرقت فيها السلطة وحماس على حدّ سواء. ذلك أن اللحظة مؤاتية للأمر رغم الأولويات الإنسانية بعد الكارثة ورغم رفض الحكومة الاسرائيلية لأي تعاطٍ يتخطّى البُعد الأمني، علماً أن مستقبل نتنياهو سيكون مطروحاً للبحث أيضاً إن تضعضع تحالفه الحكومي الحالي أو عادت الاحتجاجات ضده لأسباب داخلية.
الأهمّ، أن وقف حرب الإبادة لن يوقف العمل الحقوقي لمنع إفلات الإباديّين من العقاب. فحتى لو أبطأت الضغوط الأمريكية عمل محكمة العدل الدولية أو عرقلت عمل المحكمة الجنائية، فإن مذكّرتي التوقيف الصادرتين ضد نتنياهو ووزير دفاعه السابق بتهمة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لن تسقطا، ومثلهما دعوى جنوب أفريقيا والدعاوى المرفوعة أمام المحاكم الوطنية الأوروبية. وستضاف إليها جميعها عشرات الدعاوى الجديدة التي يجري إعدادها ضد جنود وضباط وناشطين عرقلوا دخول المساعدات إلى غزة من مزدوجي الجنسية (الإسرائيلية والأوروبية المعنية) لإبقاء الضغط قائماً على الإسرائيليين، ومثله المقاطعة الاقتصادية التي صارت عنصراً ثقافياً ومسلكاً يعتمده تلقائياً جزء من جيل جديد تسيّس على وقع المجازر الإسرائيلية ومحاولة حكومات بلدانه تغطيتها لفترة طويلة.
في أي حال، لا شيء يُعادل اليوم أهمّية وقف المقتلة، ولا شيء يوازي قوّة عودة الغزاويين من مخيّمات اللجوء الداخلي إلى مدنهم وبلداتهم في وسط القطاع وشماله رغم الحطام والخراب. وهذا يستحقّ في ذاته أن يكون العنوان الأول والأعظم شأناً، الآن وغداً.
(القدس العربي)