تقدير موقف

بعد غزّة... هل نتذكّر حرب السودان؟!

إذا صدقت النوايا، وجاءت الترتيبات عادلةً ومنصفةً للأطراف، كما يقول الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قد نشهد نهايةً للحرب على غزّة، لكن هل نشهد اهتمامًا مناسبًا للحرب السودانية التي باتت منسيةً بسبب الانشغالات العالمية بحروبٍ أخرى؟.

بعد غزّة... هل نتذكّر حرب السودان؟!

السؤال المطروح هنا ليس مجرّد أمنية إنسانية، بل قرار استراتيجي ضروري له عواقب سياسية وعسكرية، سوف تنعكس بالضرورة على أطراف الصراع، بل ربما تنعكس على البنية السياسية السودانية بشكلٍ كاملٍ في المرحلة المقبلة، بما يجعلها منعكسةً أيضًا على النسيج الاجتماعي السوداني، من حيث إمكانية ترميم آثار الحرب، والاتجاه نحو بناءٍ مُتصالحٍ مع فكرة تنوّعه ومكوّناته كافّة أو الاستمرار في معادلات العنصرية المُتبادلة على أسسٍ عِرقية.

اتجاهات تشير إلى أنّ المجهودات الدولية هي محض هندسة لسلام سودانيّ لا يسمح بتفوّق عسكري للجيش

في هذا السياق، يتمّ قراءة مجهودات اللجنة الرباعية الراهنة على المستوى الداخلي السوداني، وهي اللجنة المكوّنة من الولايات المتحدة ومصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، حيث تبرز اتجاهات تشير إلى أنّ المجهودات الدولية هي محض هندسة لسلامٍ سودانيّ لا يسمح بتفوّق عسكري للجيش، في وقتٍ يحقّق فيه تقدمًا على الجبهات، ويُضعف فيه أعداءه. وبالتالي، فإنّ هذه الهندسة تُقدّم فرصةً لـ"الدعم السريع" على الرَّغم من إمكانية انهياره، ويجعله طرفًا مفاوضًا على الرَّغم من خطاياه في حقّ الناس والوطن، حيث يكون الغرض النهائي هو ضبط أداء السودان السياسي المستقبلي في الإقليم وساحة البحر الأحمر لصالح مشروعٍ تتوافق عليه اللجنة الرباعية بما فيها مصر.

وثمة قراءة مغايرة ترى أن الجهود الدولية قد حاولت تحقيق وقفٍ لإطلاق النار في سويسرا في أغسطس/آب 2024، في وقتٍ كانت فيه قوات "الدعم السريع" تسيطر على العاصمة ووسط السودان وأجزاء من شرقه، لا ترتبط بمَن يُسيطر عسكريًا على الأرض، ولكنّها تهدف فعليًا إلى وقف الحرب. كما تستند هذه القراءة إلى أنّه لا مفرّ من الاعتراف بقوات "الدعم السريع" لوقف الحرب، لكونها بالفعل مسيطرةً هي وحلفاؤها على إقليم دارفور، ما عدا ثغرة الفاشر الاستراتيجية، وهو ثلث الوطن السوداني، وأنّ هذه القوات توظّف الانقسام العِرقي في الصراع بما يجعل لها حواضن مُناصِرة على الصعيد الداخلي، فضلًا عن الدعم الإقليمي الذي يرى أنّ "الدعم السريع" هو حصان طروادة لتحقيق مصالحه خصوصًا على صعيد استنزاف الموارد والسيطرة على الموانئ.

طبقًا لهذا الواقع، تبدو أولًا مسألة وقف إطلاق النار في السودان غير سهلةٍ، على الرَّغم من تداعيات الحرب الإنسانية المروّعة، وأنّ هذه الخطوة لا يمكن فصلها عن واقع التوازنات الميدانية والإقليمية وآليات الضمان والتطبيق. ثانيًا، وقف النار لدوافع إنسانية فقط لن يُحقق نتائج مستدامةً إذا لم يصاحبه إطار قابل للقياس والتحقّق والضمان. فهناك ضرورة لربط أي هدنة إنسانية ببروتوكولات واضحة للمراقبة وتدبير آليات التنفيذ لضمان قبول محلّي ومعايير مُراعاة حقوق الإنسان. من دون هذه العناصر، يُصبح وقف النار مجرّد استراحة تكتيكية للأطراف العسكرية.

من الضروري ربط أي عملية تهدئة بإطار واضح للمساءلة الجنائية والحقوقية

ولكي يمتلك وقف النار مصداقية، يجب أن يلبّي ثلاثة شروط مطلوبة بالتوازي:

أولًا: جعل وقف النار وسيلةً لفتح ممرّات إنسانية وربطها بمشروع سياسي قابل للتفاوض، لا طريقًا للتجميد والاعتراف بخرائط السيطرة الراهنة وبالتالي إعطاء قبلة الحياة لفصل دارفور عن الوطن الأم.

ثانيًا: آليات مستقلّة للمراقبة الفعّالة تملك صلاحياتٍ تنفيذيةً على الأرض وإمكانيّة فرض عقوبات فورية على المخالفين.

ثالثًا: الملكية والشمولية المناطقية والجهوية بحيث يتم تصميم الهدنة بمشاركة الزعماء المحلّيين من نُظّار القبائل والمؤثرين اجتماعيًا لأنّ هذه المشاركة تضمن تحجيم فرص العودة إلى الاقتتال.

وأخيرًا، فإنّ أي وقف للنار لا يمكن أن يتحوّل إلى ستارٍ تغيب معه المساءلة عن الانتهاكات الجسيمة التي جرت، ذلك أنّ مقاربة السلام من دون العدالة لا تمنع دورات العنف المستقبلية.

للتقدّم بمشروع سياسي إلى اللجنة الرباعية يضمن وجودًا ذا مصداقية للمكوّن المدني السوداني في المعادلات القادمة

إذًا، من الضروري ربط أي عملية تهدئة بإطار واضح للمساءلة الجنائية والحقوقية في أطر عدالة انتقالية يجب بلورتها منذ الآن لتلبّي الاحتياجات الداخلية السودانية، وذلك عبر آلياتٍ وطنيةٍ مستقلّةٍ بدعم خارجي، ربما يُستحسن أن يكون أفريقيًا خصوصًا من دولة جنوب أفريقيا، فهذا جزء من شروط بناء سلام شرعي ومُستدام يضمن عدم تكرار الصراع.

المستوى الثاني من إنجاح مجهودات وقف الحرب السودانية هو مسؤولية داخلية بامتياز للقوى السياسية السودانية التي يجب أن تشرع فورًا في بلورة حوارات متعدّدة المستويات لإنجاز معادلةٍ سياسيةٍ للتوافق، بحيث تكون جاهزةً للتقدّم بمشروع سياسي إلى اللجنة الرباعية يضمن وجودًا ذا مصداقية للمكوّن المدني بكل أطرافه في المعادلات القادمة، وذلك بدلًا من أن يتمّ تسويق مشروع دولي تتمّ قراءته سودانيًا أنّه لحساب طرف على آخر.. أي بدلًا من البكاء على اللبن المسكوب!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن