بصمات

بين "الوقاحة التاريخية" والمعارضة الثقافية!

ما يدعونا للكلام على هذه الصورة الحَدَثِيَّة للعيش اليومي هو الجمْعُ القصدي بين تصوّرَيْن لإثباتِ الحضور في الواقع، أعني الوقاحة حين تكون سبيلًا إلى الحرية. فتغدو قلَّةُ الحياءِ مُتصلِّبَةً في تسيير السلوك بعنادٍ يظنُّه الفاعل الوقِحُ جُرْأةً في تحقيق الذّات تاريخيًّا.

بين

هذا النوعُ من الاعتراض الواعي على سَيْرورة الحدَث يعتمدُ التبريرَ طريقًا فريدًا للفهم، وذلك باستعمال السرد التاريخي للذاكرة الجماعية بقصد فرض تفسيرٍ اعتقاديٍّ للواقع السياسي أو الاجتماعي. هذا المُعتقَد المعيش يتجاهل مُحيطه الأخلاقي الموضوعي ويُقَلِّلُ من شأن الطرف الآخر الشريك في الحياة. والأنكى أنّ الفاعِل الوقِح يفعل ذلك بجرأةٍ تتجاوز التفاعل الديموقراطي الهادئ إلى مستوى فرض الرأي بلا نقاش، بل في الكثير من الأحيان بالقوة والهيمنة والتزييف والاستخفاف بالحقيقة، ما يُمْلي سردًا يفرض واقعًا أُحاديًّا تظهرُ عليه صورة السلطة.

هذه التركيبة المفهوميّة لفرض الأمر الواقع لها مُكوِّناتٌ تُقِرُّ جدواها في السلوك، مثل الانشغال الدائم بتفسير الحوادث التاريخية، من جهة صحتها وصحة سارديها، وكذلك تقويم الأشخاص الغابرين. ويؤدي هذا التنازل عن العيش الحرّ في الحدث الراهن إلى الإغفال القصدي للظواهر التي لا تروق للسرد المُهيمن، ما يؤسِّسُ لجُرأةٍ في اعتبار هذا السرد الأحادي الحقيقة المطلقة المقبولة، التي على أساسها يتشكَّلُ مفهوم الزمان عينِه في أذهان الفاعلين الجدُد.

تكوين مجتمعٍ علميّ وثقافيّ هدف ضروري اليوم في ظلّ الحروب والتدمير المُمنهج للمجتمعات

الفاعلُ الجديد لا يمكن أن يخطوَ إلى الوراء، ذلك أنه يملك ناصيةَ الوعي التي تؤهّله للخطوّ إلى الأمام بملَكةٍ نقديَّة حرّة، قوامُها الثقافةُ النافذةُ إلى هذا الوعي عينه في راهنيّته. لذا، فإنّ التصادم مع الوعي الثقافي والمعرفة النقدية بإقامةِ المُعارضَةِ الوقحة محلَّ أي تعبيرٍ حرٍّ عن الواقع، سيؤدّي إلى قطع علاقة الفهمِ بممكناتِ الفهم، أي يُحدِثُ خللًا في التفكير التجاوزي لمثالب الحاضر.

من هنا نتحدَّثُ عن مفهوم المُعارضة الثقافية في وجه هذه الوقاحة التاريخية، وذلك لتأثيث مُقوِّمات النضال الاجتماعي النافع. والنضال الاجتماعي هو تفعيلُ العلاقة بالممكنات ما يَحُرُّ النقدَ ليملأ المساحةَ المشروعةَ للفعل، لأنه يستند إلى وعيٍ فرديٍّ وجماعيٍ من شأنِه أن يُحدِّدَ علميًّا ما يستحقّ المعارضة.

والثقافة، بما هي مركَّبٌ وجداني أخلاقي تفاعُلي تاريخي يربط بين مُكوِّنات الأدب والفن والموسيقى والتاريخ المُفكَّر فيه والتراث والذاكرة الشعبية والفلسفة، هي المجال الذي لا يترسَّخُ إلّا إذا حطَّمَ حتميَّة الوقاحة التاريخية التي تفرضُ أساطيرَ لفهم الحياة من خارجِ دنيا الأحياء؛ إنّ الكائنَ الوقِحُ يعيشُ جلبًا على الحاضر، فهو يسكنُ زمانًا غير زمان وجوده الفعلي روحًا وجسدًا وعالمًا دائم التطوّر.

لذا أطرحُ إمكانَ التغيير لهذه المشهديّة على صعيد النّخبة العِلمية المؤثِّرة في تكوين مفاهيم العيش الجديد، وأقول بضرورة بعث الهجس بمفهوم "العيش في الجامعة". وهو نمط من الوجودِ الحرِّ الذي يرتكز إلى الانغماس في البحث والتفكير والنقاش والتثقيف، داخل فضاء الجامعة، التي هي مؤسّسة المعرفة. ولا يعني ذلك مجرّد العمل الوظيفي (تدريس أو دراسة) بل وضْعَ أسلوب حياة قوامُه التعلُّم المستمر، والتخطيط الدؤوب لإنتاج المعرفة المُلائمة المُواكبة للحضور المُجدي في الواقع، لأنّ الهدف الضروري اليوم، في ظلّ الحروب والتدمير المُمنهج للمجتمعات، هو إحرازُ المساهمة الضرورية في تكوين مجتمعٍ علميّ وثقافيّ لا يمكن للبشرية الرّاهنة الاستغناء عن علومه وأخلاقيّاته للعيش الكريم.

وإذا تأمّلنا مع الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر مفهوم الوجود مع الآخر ضمن تصوُّرٍ أنطولوجي لسُكنى الكينونة، سنتمكّن من تصوير الجامعة بيتًا للوجود المعرفي، ويكون العيشُ فيها يعني الاندماج في مشروع تكوين الإنسان الهانئ بالحرية الفكرية التي تنعكس على العيش الحرّ.

نتذكّر هنا أيضًا الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (Jacques Derrida) الذي تحدّث عن جامعةٍ بلا شروط، بحيث تكون مجالًا للانخراط في التفكير الحرّ.

علينا تمييز أنماط العيش لأفراد المجتمع الواحد، حتى نتمكّن من التأسيس الحرّ لثقافة الحياة الكريمة. فهناك مجتمع الباحثين، حيث يغدو الباحث فاعلًا في ترسيخ مفهوم العيش بوصفه بحثًا، فيكون البحث العلمي فعلًا حياتيًا يوميًا، لا مجرّد إنتاج أوراق أو تلبية كتابية لمتطلّبات المؤتمرات والندوات. إنّ العيش بهذا المستوى يؤدّي إلى تثقيف ذاتي وجماعي قائم على مشاركة الطلاب والمجتمع الأكاديمي في التفكُّر المُجدي الذي يحجب إمكان الانزلاق مجدّدًا إلى التفسيرات الوقحة للواقع.

الجامعة هي فضاء تكوين الإنسان حيث يتحمّل الفرد مسؤولية صناعة المعرفة تجاه المجتمع

العيشُ بحثًا هو الممارسة النقدية التي تضعُ مفهوم السلطة موضِعَ الاختبار الدائم، فترسمُ السياسات التعليمية وتُفَعِّلُ مُساءلةَ أنماط إنتاج المعرفة، وبالنتيجة تُنشئُ بيئةً تواصليَّةً تنعكسُ مفرزاتُها البحثية على الحياة العملية التي تنخرطُ فيها شبكة من الزملاء والطلاب والمفكّرين والعمَّال المتعلمين. هنا لا ينفصِلُ العيش الثقافي عن العيش المجتمعي، لأن تخطيطًا مُواكبًا هو الذي يُهيمن ويفرضُ بناء فضاء حرٍّ للعيش المشترك الآمن.

إذًا الجامعة ليست مكانًا لاجتياز الامتحانات أو التدرّب على المهن، بل هي فضاء تكوين الإنسان. الجامعة بيت الثقافة، حيث يعيش الفردُ الأكاديميّ (الطالب/الباحث) حياةَ مثقفٍ في حوار دائم مع العلوم والفنون والأفكار. إنّها مجال تأسيس المواطَنة الأكاديمية، حيث يتحمّل الفرد مسؤولية صناعة المعرفة تجاه المجتمع الذي سيعيشُ فيه.

من هنا، نقول إنّ العيش في الجامعة هو الذي يحجب إمكان الوقاحة التاريخية، أي يؤسِّسُ ذهنية الفرد الأكاديمي وشخصيتَه الفاعلة ضدّ استعمال المعرفة، تسلُّطًا وإقصاءً. وهو يشترك مع مفهوم المعارضة الثقافية، إذ مَن يعيش في الجامعة حقًّا، سيشارك في نقد المجتمع وفي النضال الحقيقي لإحلال قيم المعرفة والحرية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن