موافقة "حماس" على الإفراج الفوري عن كامل الأسرى الإسرائيليين وجثامينهم، كانت بمثابة "العبارة المفتاحية" التي دشّنت انطلاق الخطة التي سبق أن عرضها ترامب بحضور رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو، وضمّنها مسار إنجازاته، مُذكّرًا ببطولاته في "إعلان القدس عاصمةً أبديّةً لإسرائيل" وبالجولان السوري المحتلّ جزءًا من "السيادة الإسرائيلية".
وعبر سرديّته التي سيُكمل فصولها في مصر، وأمام الكنيست الاسرائيلي، أراد ترامب بناء جسرٍ بين ولايتَيْه الأولى والثانية، ليُكمل مع نتنياهو مسار إخضاع الشرق الأوسط بعد تحييد غزّة، وضمّ الجولان وغيره.
وبهدف تحقيق الوعد الترامبي في توسيع مساحة إسرائيل "الصغيرة"، يقضم جيش الاحتلال المناطق الحيوية في الجنوب السوري، انطلاقًا من جبل الشيخ الاستراتيجي بإطلالته السورية وامتداداته اللبنانية، بغية صياغة حزام أمني عبر المواقع الإسرائيلية المُستحدثة في لبنان وسوريا، ليبرز العبث في الشرائط والخرائط الحدودية، والتفوّق الأمني والسيطرة الكاملة لإسرائيل.
صيغت الخطة الترامبية بطريقة تجعل قبول "حماس" لها تجرّعًا للسمّ ورفضها انتحارًا
لا نقاش في أنّ الخطّة الأميركية هي خطّة إسرائيلية بالكامل، أي أنّها "خطة إسرائيكية". وعلى الرَّغم من ذلك، أدخل نتنياهو عليها تعديلات، تتمثّل بشطب العبارات التي تتحدّث عن الدولة الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، في محاولةٍ لشطب "المسعى الماكروني - العربي حول حلّ الدولتَيْن" الذي أُطلق خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
ولا نقاش أيضًا في أنّ خطة ترامب - نتنياهو، عبارة عن "فرض السلام بالقوة"، تلك النظرية التي طوّرها ثنائي "تراتنياهو" إلى "فرض السلام بالمزيد من القوة". ولهذا، كان لافتًا عرض الخطّة توازيًا مع أكبر عملية حشد للأساطيل الأميركية المُدجّجة بالحاملات والقاذفات والمدمّرات والمُقنبلات، في أكبر عملية استعراض للقوّة بهدف إخضاع المنطقة بالتهويل والتهديد الذي يستبق اندلاع الحرب الأعنف وربّما الأطول في تاريخ المنطقة.
وبغطرسة القوّة المُتغوّلة، رمى ترامب بموافقة الدول العربية والاسلامية على خطته، التي فنّدها وزير خارجية باكستان إسحاق دار بقوله "إنّ ما عرضه ترامب مخالف للخطة التي وافقت عليها الدول العربية والإسلامية"، ما يؤكّد أنّ المبادرات العربية والإسلامية هي من دون أنياب تحمي "عملية السلام أو حلّ الدولتَيْن" وقد جرفتهما آلة القتل الاسرائيلية، وأحالتهما أثرًا بعد عين.
وفق هذه السردية "الإسرائيكية"، بدأت ترتسم تضاريس المنطقة وفق خرائط وشرائط "صفقة القرن" لصاحبها جاريد كوشنر والذي يتردّد انه طوّر الخطة باتجاه "صفقة القرن 2" والتي ستكون محلّ احتفالية كبرى بحضور ترامب وحشد دولي في مصر.
وفق هذا السياق، وجدت المقاومة الفلسطينية نفسها في أكبر عملية إحراج وجودي في تاريخ القضية الفلسطينية، فقد صيغت الخطة الترامبية بطريقةٍ تجعل قبولها تجرّعًا للسمّ... ورفضها انتحارًا لا رجعة فيه. وأغلب الظنّ أن هامش المناورة الناتج عن اختلال موازين القوى، والذي ضاق كحبل مشنقةٍ حول عنق "حماس"، دفعها الى قبول مشروط بالخطة. وعلى الرَّغم من هذا، فقد تمكّنت "حماس" بجهود الوسطاء من الحصول على ضمانات ترامبيّة... مُعلنةً، لناحية عدم تجدّد الحرب، وسريّة متعلّقة بمآلات وترتيبات اليوم التالي في غزّة، ما سيفتح النقاش عميقًا عمّا أنجزته عملية "طوفان الأقصى" وجبهات الإسناد المُصاحبة لها، وتداعياتها على كلّ صعيد.
الحرب المقبلة على إيران ستضمّ الترويكا الأوروبية إلى جانب الولايات المتحدة وإسرائيل
إسرائيليًا، حرب الإجهاز على غزّة هي عنوان دَيْمومَة إسرائيل لمئة سنة مقبلة، بمعنى أنّ هذه الحرب هي جزء محوري من مدارات الحرب الواسعة، لتنفيذ حلم "إسرائيل الكبرى"، والتي جَحّظت خطوطها ومعالمها حشود الأساطيل الأميركية في القواعد والبحار. دَيْمومَة تستوجب، وفق عقيدة "تراتنياهو"، استكمال الحرب على محور المقاومة والقضاء على "رأس الأفعى" في إيران!.
أمصادفة بريئة، أن تتزامن "خطة تراتنياهو" في غزّة، مع تفعيل عقوبات الأمم المتحدة على إيران عبر آلية الزناد "سناب باك" (snapback)، بعد رفض مجلس الأمن مشروع روسيا والصين الهادف لتأجيل العقوبات لمدّة ستة أشهر، واعتبار الترويكا الأوروبية أنّ طهران انتهكت الاتفاق النووي لعام 2015، ما يَشي بأنّ الحرب المقبلة على إيران، ستضمّ الترويكا الأوروبية إلى جانب الولايات المتحدة وإسرائيل.
وليست مصادفةً أن يتصاعد الكلام عن نزع سلاح الفصائل العراقية المُوالية لإيران والتي لديها نحو 16 قاعدة عسكرية "تحت - أرضية" لتصنيع الصواريخ والمُسيّرات ومخازن أسلحة وذخائر على امتداد العراق، تزامنًا وتوازيًا مع خطة حصر سلاح "حزب الله" في لبنان.
إنّها المصادفة التي تقول إنّه ما كان للاندفاعة "الإسرائيكية" أن تنطلق بهذه القوّة، لولا التحوّلات التي عصفت بسوريا، فحوّلتها إلى مدى حيوي واستراتيجي للمقاتلات الإسرائيلية وهي ترسم خطوط النفوذ والهيمنة والتفوّق الإقليمي شبه المُطلق.
الحرب المقبلة فرصة استراتيجية ثمينة لا يبدو أنّ الثنائي "تراتنياهو" بصدد إضاعتها
بهذا المعنى، فإنّ سوريا الجديدة المنزوعة القدرات، والتي شكّل تحلّلها وخروجها من النفوذ الإقليمي الإيراني، وتموضعها أقلّه في منطقةٍ رمادية، شكّل انقلابًا في موازين المنطقة، لتكون إحدى منصّات "الهجوم الإسرائيكي" المُحتملة على إيران بهدف إسقاط نظامها وقطف رأس مرشدها، توازيًا مع توجيه ضربات جراحية موضعية ضدّ الفصائل المُوالية لإيران في العراق وقلب الأوضاع فيه. ومن هنا ينبغي التوقّف مليًّا عند تصريحات رجل إيران القوي علي لاريجاني واعتباره أنّ "حزب الله قادر على قلب موازين القوى في لبنان"!.
بهذا المعنى أيضًا، وبعيدًا عن المقارنات في نسبة توازن القوى، تُشكّل الحرب المقبلة فرصةً استراتيجيةً ثمينةً للولايات المتحدة وإسرائيل التي لطالما أكثرَ رئيس وزرائها من الكلام عن تغيير الشرق الأوسط وليس فقط وجهه، وهي الفرصة التي لا يبدو أنّ الثنائي "تراتنياهو" بصدد إضاعتها.
لكن ماذا عن ردّ إيران وبنك أهدافها في ظلّ تطوير ترسانتها وتحديثها بأسلحة صينية وروسية متطوّرة؟ ووجاهة السؤال تقول إنّ الاندفاعة "الإسرائيكية" لن تقف عند حدود إيران، ما يطرح السؤال العميق حول حقيقة موقف روسيا والصين الاستراتيجي إذا ما وجدتا أنّ قلاع نفوذهما الإقليمي باتت في قبضة "تراتنياهو"!.
(خاص "عروبة 22")