لا تزال الأوضاع في غزة تلقي بثقلها على المشهد السياسي العام انطلاقًا من تفعيل الخطة الأميركية التي تم المصادقة عليها في "قمة شرم الشيخ للسلام". فمع انتهاء المرحلة الأولى المتعلقة بتسليم الرهائن الـ20 الأحياء مقابل ما يعادل ألفي أسير فلسطيني وحصول انسحابات اسرائيلية تدريجية، تبدأ مشاورات المرحلة الثانية، وسط توقعات بأن تكون أكثر تعقيدًا لأنها تتناول مستقبل القطاع وسلاح الحركة وإعادة الإعمار. وهذه البنود الصعبة جرى ترحيلها إلى حين بلورة أرضية مشتركة بين الجانبين، أي "حماس" واسرائيل، فيما المعطيات تؤكد أن الهوة سحيقة وتحتاج إلى وقت طويل للتوصل إلى اتفاق. وهذا تحديدًا ما أكده المتحدث باسم وزارة الخارجية القطرية ماجد الأنصاري، في حديث إعلامي، كاشفًا عن "بدء مناقشات صعبة حول كيفية تأمين الوضع وإدارته، وضمان عدم العودة إلى الحرب في غزة مجددًا"، لافتًا إلى أن المحادثات "بدأت بالفعل في شرم الشيخ، وأن هناك فرقًا تعمل على مدار الساعة؛ لضمان عدم وجود أي فاصل زمني بين المرحلتين الأولى والثانية".
وتضع هذه البنود الخلافية الوسطاء في وضع شديد الحساسية في إدارة المفاوضات التي يُراد لها النجاح بضغوط اميركية واضحة، إلا أن المعضلة تكمن في الثغرات الكثيرة التي تحيط بخطة الرئيس دونالد ترامب نفسها التي تركت العديد من البنود مفتوحة على كل الاحتمالات. وأن الحاجة حينها إلى وقف حمام الدم والتوصل إلى هدنة جعلت "حماس" توافق رغم اعتراضها المبدئي على العديد من النقاط المثارة فيما تل أبيب وجدت نفسها في موقع حرج فرض عليها القبول خوفًا من ردة فعل واشنطن ومن تزايد المطالبة الشعبية الداخلية بإبرام اتفاق فورًا لإطلاق سراح الرهائن. فاستغلت الفرصة السانحة أمامها والتي اعتبرها ترامب "انتصارًا لاسرائيل" وخطب في الكنيست مغازلًا نتنياهو ومؤكدًا دعمه اللامحدود حتى وصل به الأمر للطلب من الرئيس الاسرائيلي بالعفو عنه من قضايا الفساد والرشوى التي يحاكم بها. وبدا الاخير في موقع المبتسم المنتصر طوال الخطاب الذي شدّ من عزيمته وأسكت المعارضين للخطة وتحديدًا اليمين المتطرف.
وهذا "الغزل" الأميركي حمله معه ترامب إلى شرم الشيخ حين أبدى اعجابه بالرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، الذي لعبت بلاده دورًا محوريًا إزاء مفاوضات وقف النار في غزة منذ اليوم الأول لعملية "طوفان الأقصى". ومع هذه المعطيات، تتكرس حقيقة واحدة ألا وهي أن اسرائيل ورغم الموافقة على الخطة ستعمد كلما سنحت لها الظروف إلى خرق الاتفاق ونقضه وتجاوزه متذرعة بحجج وذرائع واهية تمامًا كما حصل أمس حين أعلنت عن عدم فتح معبر رفح وتقليص حجم المساعدات الانسانية إلى نصف المتفق عليه ومنع إدخال الوقود والغاز بحجة عدم التزام "حماس" بتسليم جثث الرهائن لديها. وتسعى الحركة إلى البحث عن الجثث الموزعة على طول القطاع ولكنها تواجه صعوبة كبيرة في تحديدهم وجمعهم جراء الدمار الكبير الحاصل. وفي هذا الصدد، أشارت "هيئة البث الاسرائيلية" إلى أنه "بعد أن أعادت "حماس" 4 جثث فقط من أصل 28، أبلغت مصر إسرائيل أنها تعتزم تشكيل فريق من ممثلين مصريين وقطريين وأتراك لدخول قطاع غزة من أجل إيجاد حلول لإعادة القتلى". فيما أكدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن تسليم رفات الرهائن والفلسطينيين الذين لقوا حتفهم خلال الحرب ربما يستغرق وقتًا طويلًا، ووصفت الأمر بأنه "تحدٍّ هائل" بالنظر إلى صعوبة العثور على الرفات وسط أنقاض غزة.
تزامنًا، حض الرئيس الأميركي الحركة على تسليم الجثث المتبقية للرهائن المتوفين، مشددًا على أن هذه الخطوة ضرورية للانتقال إلى المرحلة التالية من اتفاق وقف إطلاق النار. كما جدد موقفه الداعي "حماس" إلى إلقاء سلاحها وإلا سيُنزع منها "سريعًا وربما بعنف". في غضون ذلك، أوضح رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أن بلاده قد تؤدي دورًا قياديًا في المساعدة في نزع سلاح الحركة، وذلك بالاستناد إلى تجربتها في تشجيع الجماعات المسلحة في أيرلندا الشمالية على إلقاء السلاح. ورغم الاختلاف في التجربة إلا انه يجري الاستشهاد بهذا النموذج لتطبيقه في القطاع. وبحسب المعطيات يلعب مستشار ستارمر للأمن القومي، جوناثان باول، دورًا محوريًا في هذا الإطار وسبق ان وجه له مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف تحية مشيدًا بـ"إسهاماته الرائعة وجهوده الدؤوبة". وتأتي هذه الاقتراحات في حين لا يوجد خطة عمل متكاملة يتم طرحها بل مجرد أفكار تحتاج إلى بلورة وجهود والأهم القابلية على التطبيق، إذ أن واقع غزة في مكان وما يسرب من حين لآخر يبدو في مكان آخر.
ويدفع سكان القطاع الثمن الأكبر في هذه المعركة، فعلى الرغم من وقف حرب الابادة التي استمرت ما يقارب العامين إلا ان الأوضاع تحتاج إلى تحرك فوري وعاجل لانقاذ حياة المصابين ومعالجة حالات سوء التغذية ولاسيما بين الأطفال. ولكن بطأ الاستجابة الاسرائيلية ووضع العراقيل سيصعّب هذه المهمة أمام المؤسسات والمنظمات الدولية التي تدعو لفتح المعابر وتدفق المساعدات الانسانية. وفي أول تراجع عن الاتفاق، قتلت إسرائيل 7 فلسطينيين في القطاع أمس بينما أحصى المكتب الحكومي في غزة 14 خرقًا للاتفاق منذ دخوله حيّز التنفيذ، مؤكدًا رفع تقرير عن هذه الانتهاكات إلى الوسطاء. في السياق عينه، أشار المستشار الإعلامي لـ"الأونروا"، عدنان أبو حسنة، إلى أن الوكالة لديها 6 آلاف شاحنة بها مواد غذائية تكفي لمدة 3 شهور، وأيضا بها مئات الآلاف من الخيام والأغطية ولكن إسرائيل تمنع حتى الآن دخول هذه المساعدات، مؤكدًا، من جهة أخرى، بأن الأولوية القصوى حاليًا هي لإعادة 140 ألف طالب إلى مقاعد الدراسة في قطاع غزة، بعد أن حرموا منها بسبب الحرب الإسرائيلية وكورونا.
إلى ذلك، يشهد القطاع محاولات من "حماس" لاستعادة قبضتها الأمنية وبرز ذلك من خلال تنفيذ عددًا من الاعدامات الميدانية لأشخاص اتهمتهم بـ"العمالة" والتخابر لصالح العدو الاسرائيلي ما أثار الكثير من الجدل، إذ أدانتها الرئاسة الفلسطينية، واضعة إياها في إطار "الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان" بسبب افتقارها "إلى المحاكمات العادلة". في وقت أعلن تجمع القبائل والعشائر الفلسطينية في قطاع غزة رفضه القاطع لمظاهر الفلتان الأمني والبلطجة التي ارتكبتها "فئات مارقة"، حيث استغلت حالة الفراغ الأمني الناتجة عن الحرب، مما أدى إلى تفاقم معاناة المواطنين وتهديد أمنهم وسِلْمهم الأهلي. وكانت عناصر تابعة لـ"حماس" ظهرت بعد اتفاق وقف النار في الشوارع في محاولة لفرض الأمن وضبط الأوضاع، وهو ما أيضًا تبناه الرئيس ترامب نفسه ولكنه حصره بوقت محدد إلى حين استتاب الأمور وإنشاء إدارة دولية لغزة. وكان وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي كشف، في مؤتمر صحافي بالقاهرة، أن 15 تكنوقراطيًا فلسطينيًا اختيروا لتولّي إدارة غزة بعد الحرب، موضحًا أن أسماءهم خضعت لمراجعة إسرائيل.
الشكوك التي تحيط بإتفاق وقف النار في غزة والمعوقات الدائرة بشأن مناقشات المرحلة الثانية تتزامن مع اوضاع مضطربة في المنطقة. ففي لبنان، بدا مستغربًا تهميش حضور رئيس الجمهورية جوزاف عون "قمة شرم الشيخ للسلام"، لاسيما أن لبنان معني بما يجري بإعتباره من "دول الطوق" كما أن أزمة غزة أثرت عليه وأدت بسبب قرار "حزب الله" إلى حرب لا تزال تداعياتها حاضرة إلى اليوم. فأمس، أصيب 3 أشخاص بقصف إسرائيلي على منطقتين جنوبي لبنان، في أحدث خرق لاتفاق وقف إطلاق النار. وفي توقيتٍ متزامن، أطلق الجيش الإسرائيلي قنابل مضيئة بكثافة في أجواء شبعا. كما سُجل إطلاق قنبلتين مضيئتين في أجواء الناقورة، في مؤشر إلى نشاط استطلاعي واسع للعدو على امتداد الخط الحدودي. وإزاء هذه الأوضاع، أكدت المتحدثة باسم قوات "اليونيفيل" كاندس أردييل أن "الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة داخل الأراضي اللبنانية تعرقل سير تنفيذ القرار 1701، وتحدّ من قدرة الجيش اللبناني على الانتشار الكامل جنوبًا"، لافتة إلى أن القرار الأممي القاضي بتقليص قوات حفظ السلام، "الخوذ الزّرق"، حول العالم بنسبة 25% يفرض تحديات كبيرة على بعثة الجنوب. يُذكر أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وجه أمس رسالة إلى الرئيس عون أكد فيها التصميم على تنظيم مؤتمري دعم للبنان.
سوريًا، تتواصل الاجتماعات بين وفد عسكري وأمني من مناطق نفوذ "الإدارة الذاتية" الكردية في شمال وشمال شرقي سوريا وآخر من الحكومة السورية. وتم خلال اللقاء بحث عملية دمج "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) ضمن الجيش السوري وقوى الأمن الداخلي (الأسايش) في وزارة الداخلية. والأجواء التي تبدو "ايجابية" لا تزال امامها مباحثات طويلة نظرًا إلى وجود العديد من نقاط الاختلاف ولكن الدعم الأميركي يمكن ان يسهل التوصل إلى حلول عملية بين الطرفين. وتسعى حكومة دمشق إلى معالجة الأوضاع بهدف ارساء الاستقرار وضبط الأمن مما يساعدها في تثبيت خطواتها وفرض سيطرتها على البلاد. من جانبه، حذّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان "قسد" من الانجرار إلى ما أسماها "طرق خاطئة"، داعيًا إياها إلى "دعم وحدة سوريا وسلامة أراضيها". وفي إطار متصل، يزور الرئيس السوري أحمد الشرع موسكو اليوم الأربعاء في أول زيارة له بعد الإطاحة بالنظام السابق. ومن المقرر أن يبحث الشرع والوفد المرافق له في موسكو وضع القواعد الروسية في سوريا، وإعادة تسليح الجيش السوري إضافة لملفات اقتصادية تتعلق بالاستثمار. كما سيطالب الأخير وفقًا لوكالة "رويترز" تسليم الرئيس المخلوع بشار الأسد لمحاكمته بسبب جرائمه تجاه الشعب السوري.
في الشأن الدولي، انتقد الرئيس ترامب مرة أخرى نظيره الروسي فلاديمير بوتين خلال تصريحات للصحافيين في البيت الأبيض، قائلاً إن بوتين ببساطة غير راغب في إنهاء حربه على أوكرانيا. وأضاف "عليه أن يسوي هذه الحرب حقًا. وتعلمون أن لديهم طوابير طويلة تنتظر الحصول على البنزين في روسيا الآن... وفجأة سينهار اقتصاده". ويستقبل ترامب يوم الجمعة نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي يطالب بتسليم بلاده صواريخ "توماهوك" بعيدة المدى، القادرة على إصابة أهداف في العمق الروسي، وهو سيناريو لوّحت به الإدارة الأميركية من دون أن تحسم قرارها بعد. ميدانيًا، أمرت السلطات الأوكرانية بإخلاء عشرات البلدات قرب مدينة كوبيانسك المدمرة أمس الثلاثاء، وعزت ذلك إلى "تدهور الوضع الأمني" في المنطقة التي تتعرض لهجمات روسية مكثفة.
وفي لمحة على ما تناولته الصحف العربية الصادرة اليوم، تركيزٌ مستمر على الشأن الفلسطيني:
لفتت صحيفة "الأهرام" المصرية إلى أن "النجاح الحقيقي لاتفاق شرم الشيخ لا يقاس بمجرد التوقيع عليه، بل بالقدرة على تحويل بنوده إلى واقع ملموس على الأرض، وبناء مستقبل مستقر يليق بالشعب الفلسطينى وشعوب المنطقة"، مشددة على أن "مصر سيكون لها دور رئيسي في المراحل التالية...فاتفاق شرم الشيخ للسلام ليس مجرد نهاية للحرب، بل هو بداية لمسار طويل نحو إعادة بناء الثقة وإحياء الأمل في مستقبل أفضل لهذه المنطقة".
صحيفة "الغد" الأردنية، أكدت أن "المبادرة التي أطلقها ترامب، والخطة الملحقة بها بدت وكأنها سهلة التطبيق في شقها الأول غير أنها لن تكون كذلك فيما يخص الشق التالي منها. ليس بحكم غموض أهدافها ومراميها فقط، بل وبسبب ما يعتقد أنه سوء نوايا تتخطى صاحب المبادرة باتجاه الفريق المقابل للمقاومة الفلسطينية، بل والشعب الفلسطيني بكل مطالبه العادلة". وأردفت قائلة "ما تبقى من محطات المبادرة قد لا تكفيه مفاوضات عادية، ولا ضغوطات من تلك التي بذلت في مراحل سابقة، بحكم تعلقها بأساسيات الثوابت التي قامت عليها الحرب أصلا، وبانعدام الثقة بين أطراف المعادلة، وبسوء النوايا المفترضة بين محاور الصراع".
من جانبها، كتبت صحيفة "الخليج" الاماراتية تحت عنوان "هل يتم استبدال غزة بلبنان؟" متطرقة إلى أن "الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان تأتي في إطار الاستهدافات المتكررة والمتعمدة على المدنيين الآمنين، وعلى البنى الاقتصادية، ولمنع الناس من العودة إلى حياتهم الطبيعية، وإعادة إعمار ما تهدم، وهي تعبير عن الغطرسة والإجرام المستمر والمتواصل تحت نظر الدول الضامنة لاتفاق وقف إطلاق النار ولجنة الإشراف عليه (الميكانيزم) الأمريكية - الفرنسية التي تبدو مشلولة الفاعلية"، متسائلة "إذا ما كان هناك قرار لإسرائيل بـ"حرية التحرك" على اتساع الجغرافيا اللبنانية بمعزل عن القرارات الدولية، وما إذا كانت إسرائيل تحاول استبدال حرب الإبادة التي شنتها على قطاع غزة بالانتقال إلى الساحة اللبنانية في إطار ما تسميه استكمال حربها على بقية الجبهات، واختلاق ذرائع واهية لتبرير اعتداءاتها".
وعقبت صحيفة "القدس العربي" على الاتفاق عينه موضحة أنه "وإذا كان ترامب قد ألزم نتنياهو بالتوافق مع خطاب الرئاسة الأميركية حول انتهاء الحرب في غزة، فإن تجارب الماضي تثبت أن تعهدات رئيس الحكومة الإسرائيلية العلنية اختلفت على الدوام عن سلوكه الفعلي، خاصة وأن أبرز خياراته الاستراتيجية كانت إطالة حرب الإبادة بما يخدم أجنداته الشخصية في التهرب من اتهامات الفساد والرشوة وخيانة الأمانة أمام القضاء، وفي الالتفاف على صناديق الاقتراع والحفاظ على ائتلافه الحاكم الهش"، مستنتجة أن أي رئيس أميركي لم يقدّم لدولة الاحتلال ما قدمه ترامب، وبالتالي فإن مستقبل الاتفاق، وربما سائر علاقات واشنطن بالمنطقة، تظل محكومة بهذا المعطى المبدئي الحاسم. والسلام بهذا المعنى يحتاج من الرئيس الأميركي إلى تعديلات نوعية حاسمة، أبعد بكثير من اللغة الاحتفائية وإدمان رفع الإبهام".
(رصد "عروبة 22")